تربح موسكو الحرب في سورية، ولهذا أهمية خاصة، ضمن علاقاتها الدولية، لكن صفقة سورية بحد ذاتها قد تكون ربحّا أسوأ من الخسارة، فقد دمر اقتصادها ودمرت بنيتها التحتية، وتهدم أكثر من مليون بيت ومؤسسة تعليمية وخدمية، ودمر مجتمعها، ووقع أكثر من مليون قتيل، بسبب الحرب وظروفها وبسبب التهجير، وجرح نحو مليونين ونصف المليون، منهم أكثر من 10% معاقون، وهجر قسرًا نحو سبعة ملايين للخارج، ونحو ستة ملايين في الداخل، إضافة إلى انقسام مجتمعي حاد، ورغبة قوية مضمرة بالانتقام بين جميع الأطراف. وتتحمّل روسيا مسؤولية سياسية وأخلاقية لكل ما جرى، بل وساهمت قواتها على نحو مباشر في هذا الدمار، بغض النظر عن أي مبرّرات.
لكن ما يجعل صفقة سورية رابحة بالنسبة لروسيا هو نجاحها في إعادة البناء المادي والمجتمعي، غير أن شروط كلا الأمرين ومتطلباتهما صعبة جدًا، تشمل برنامجا حقيقيا آمنا ومضمونا لعودة المهجّرين، وعودة الكادرات الضرورية لإعادة الإعمار، وعودة قطاع الأعمال، وجذب مساعدات واستثمارات بعشرات المليارات سنويًا على مدى عقد وأكثر، وإطلاق الاقتصاد السوري. وهذا كله لا يبدو ممكنًأ، و بدون ذلك ستجد موسكو نفسها أمام ملف فشلٍ سياسي، يشكل عبئًا ثقيلًا، فالمعروف أن إدارة فترة ما بعد الحرب أصعب بكثير من إدارة الحرب نفسها.
تسعى موسكو إلى ركوب عربة إعادة المهجّرين، كونها مشكلة ضاغطة دوليًا، لدفع اللاعبين الدوليين إلى التعاون معها في هذا الملف المهم، وتروّج أن عودة المهجرين تتطلب دعمًا دوليا لإعادة الإعمار، وإعادة الإعمار تتطلب إعادة تأهيل النظام السوري كما هو من دون أي تغيير. وتحتاج موسكو هنا لقبول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج وتركيا، لكونها الأطراف التي بدون مساهماتها المادية والسياسية لن يتحقّق نجاح لإعادة الإعمار، المادي والمجتمعي، ولن تتم عودة المهجّرين كما تريد. وتشترط هذه الأطراف التغيير السياسي، وروسيا لم تدخل في برنامجها أي تغيير سياسي، فهي ترى مصلحتها في بقاء الأسد وبقاء النظام كما هو بكامل مؤسساته، ولا ترى بديلًا عن ذلك في المدى المنظور، لأنها ترى أن أي تعديلٍ في هيكل بناء النظام يهدّد بانهياره برمته وسيادة الفوضى، خصوصا وأن الصراع لم يحطّ رحاله بعد، وثمّة عقدة شمال سورية وشمال شرقها وشمال غربها بتعقيداتها الكثيرة. وبالتالي، تدعو موسكو إلى إعادة تأهيل النظام ومؤسساته كما هي بدون أي تغيير الآن على الأقل.
تخطئ موسكو إن توجهت إلى الحفاظ على النظام السوري، من دون أي تغيير في بنية مؤسساته وسياساته وممارساته واستمرار العقلية الأمنية نفسها، وذات الإغفال الكلي لأي دور للشعب وقواه المجتمعية ونخبه الفكرية والثقافية والسياسية والتقنية، خصوصا بعد تصاعد نزعة الانتقام التي ولّدتها سنوات الصراع، على مستوى النظام ومواليه الذين يشعرون بنشوة النصر، وعلى مستوى بقية الشعب السوري الذي شعر بالقهر والخذلان، وتضرّر على جميع المستويات الإنسانية والمادية والنفسية.
إن كانت موسكو تدرك ذلك كله، ولديها برنامج غير معلن للتغيير السياسي، فهي لا تستطيع الإفصاح عنه الآن، لأن هذا الإفصاح سيدفع النظام إلى عدم التعاون معها، والاقتراب أكثر من إيران التي تريد الاحتفاظ بالنظام، من دون أي تغيير على الإطلاق وبأي ثمن، وإيران هي عقدة المنشار في طريق روسيا، (إيران في سورية حليف روسيا وغريمها في آن معًا)، والنظام في جوهره أقرب إلى طهران من موسكو. ولكن بدون مثل هذا الإفصاح لا تستطيع روسيا كسب ثقة المجتمع الدولي، أو كسب ثقة السوريين، والسوريون اليوم يفضّلون موسكو، على الرغم مما فعلته، على طهران، لأن الأخيره تمثل تهديًدا لتركيب المجتمع السوري، وتهديدًا باستمرار الصراع المذهبي إلى أجل غير مسمّى.
في حال وجوده، ربما تستطيع موسكو الإفصاح عن “برنامجها غير المعلن”، عندما تمتلك قدرات أقوى داخل سورية، وسيطرة داخلية على قرارات النظام بالتحديد، ويبدو أنها تعمل جادّة على ذلك. والمجتمع الدولي يريد أن يرى أولا ضماناتٍ عما ستفعله روسيا في سورية في المستقبل القريب، قبل أن يتحرّك إيجابًا تجاه إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار. أي تبدو القضية اليوم تشبه سؤال “العربة أم الحصان أولًا؟”، لكن الحصان هنا هي موسكو التي يجب أن تنتقل إلى المكان الصحيح أمام عربة إعادة المهجرين وإعادة الإعمار، المادي والمجتمعي.
يمكن أن يكون تعامل موسكو مع ملف عودة اللاجئين السوريين مختبر سياستها المقبلة تجاه سورية، فهي تعلن عن زيارات ومفاوضات وتشكيل فرق عمل وتحديد منافذ لعودة المهجّرين، ولكنها لم تقدم سوى ضماناتٍ كلامية لعودتهم، لذا تفقد كثيرًا من مصداقيتها في هذا الجانب، نتيجة ممارسات النظام والإيرانيين المخالفة لما تتعهد به روسيا، فالمعروف أن المناطق التي تم تهجيرها هي التي نهضت ضد النظام، وتعرّضت للتدمير والقتل والاعتقال والتهجير. وبالتالي، يضمر النظام لأهلها الكثير، وليست الضمانات مجرّد تصريح لمسؤول روسي، بل تحتاج لإجراءات محدّدة ومضمونة، يطمئن إليها الجميع، أولها إطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين، (مثلاً كيف تصمت موسكو عن إرسال قوائم بأسماء مئة ألف قتلوا في سجون النظام، ولم يترافق هذا مع إخلاء من بقي في تلك السجون حدّا أدنى)، ثم من دون إعلان عفو عام آمن ومضمون التنفيذ عن جميع الملاحقين على خلفية الصراع منذ 2011، وإلغاء جميع الأحكام الصادرة عن محكمة الإرهاب بحق المعارضين، وتبلغ أعداد هؤلاء عدة مئات من الآلاف، ومن بينهم كوادر مهمة، لها دور فاعل في إعادة الإعمار المادي والمجتمعي.
تعلم موسكو أن النظام سيتعاون في ملف عودة اللاجئين، لكنه سيرفض عودة فئة المعارضين والناشطين السياسيين، لأنه يرى فيهم خطرًا مستقبلياً، وهو مستعدٌّ للعفو عمن حمل السلاح، وقاتل وقتل، ولكن ليس عمن عارضه بالكلمة والكتابة. وحتى لو ضغطت موسكو لإلغاء الملاحقات السابقة، فثمّة ضرورة لضمان ألا يعود النظام إلى اعتقالهم ثانية، بحجج مختلفة أو تدبير اختفائهم بطريقة ما. وليست الضمانات هنا وعودًا كلاميةً من النظام نفسه، والمؤسسات نفسها، والقيادات نفسها، والأشخاص أنفسهم، فهذا لن يخلق ثقةً، ولن يساعد على نجاح الحل الروسي الذي تتطلع إليه موسكو، لتعزيز مكانتها العالمية، بل لابد من ترتيباتٍ لها طابع سياسي وقانوني مضمونة، توضع أسسها في الدستور الجديد الذي يتم التشاور للبدء بصياغته قريبًا، والذي يجب أن يشيع مناخًا سياسيًا يشجّع على العودة الطوعية الآمنة، والبدء بإعادة الإعمار، ترتيبات يجب أن يعمل الروس عليها، ويضمنوا تنفيذها بضمانةٍ من مجلس الأمن، وتكون جنيف موضع إبرامها ومظلتها. وذلك كله ضمن حزمة حل سياسي متكامل. وهذا شرط لإيجاد مناخ ضروري لدعم دولي وإقليمي لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
يُتوقع أن تكون نهاية هذا العام 2018 موعد انقشاع ضباب الكارثة السورية، ووضوح موقف موسكو، وموقف واشنطن وأنقرة وطهران ودمشق، واتضاح مصير شمال سورية وشمال شرقها وشمال غربها، ومصير ملف جبهة النصرة باختفائها بطريقةٍ أو بأخرى، ومصير الحل السياسي بمجمله. وحينها إما سينفتح أفق سورية باتجاه إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار المادي والمجتمعي نحو المستقبل، أو سينفتح باتجاه بقائها جرحًا نازفًا إلى أجلٍ غير مسمى، ومع الخيار الثاني سيكون ربح روسيا في سورية أسوأ من الخسارة.
المصدر : العربي الجديد