مقالات

محمد قواص: الفيزا اللبنانية..خبث الطوائف

لم يعترف لبنان الرسمي بالنازحين السوريين بصفتهم لاجئين هاربين من كارثة ديارهم. بسبب حساسيات طوائفه رفض لبنان إقامة مخيمات رسمية تدير شؤون اللاجئين الجدد.

نظريا من واجب البشر الوقوف إلى جانب البشر في الأزمات والكوارث والويلات. المسألة إنسانية لا تتعلق بالمُثل والقيم والأخلاق فقط، وليست لصيقة بتعاليم الأديان، كل الأديان فقط، بل هي متصلة بالغريزة الإنسانية، في ما هو بقاء، منذ عيش الغاب، انتهاء بعيش الحضارات. هذا نظرياً.
عمليا “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” على ما أفتى توماس هوبس منذ عدة قرون، وبالتالي لا يحسب أمر العلاقة بين البشر إلا وفق مقاييس المنفعة وتوازن والقوى وسباق الأولويات. وفي تناول الجدل الحالي حول فرض لبنان تأشيرة دخول على السوريين عبثية وبيزنطية لن تجد إجماعاً حول ما هو صالح وما هو خطيئة.
لا تحتمل الطوائف في لبنان هذا الفيضان الديمغرافي الوافد من الحدود السورية. المسيحيون، بكافة مشاربهم، يعتبرون الأمر تهديدا لتوازن فقدوه منذ زمن، ويحاولون بما تيسر إنقاذ ما يمكن إنقاذه. الأقليات (في بلد الأقليات) تخشى أن يمعن الحدث في تهميش وزنهم. الشيعة ينظرون بقلق إلى تسونامي سنّي يجتاح بيئتهم ويهدد ما أنجزه “الحزب والحركة” من فوقية في المشهد السلطوي في البلد. والسنّة ينظرون إلى الأمر بصفته مربكا قد يطيح بنخبهم السياسية القلقة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
تلقّى لبنان صفعة التواجد “الغريب” منذ النكبة الفلسطينية عام 1948. تصرّف لبنان تجاه الأمر بصفته قدرا، أقلق السلطة في بيروت فتعاملت معه بصفته ملفا أمنيا تولت أجهزة المخابرات خنق تداعياته. جرت إقامة مخيمات معروفة دوليا تشرف عليها وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وجرى التعامل كيفيا مع الإنسان الفلسطيني وفق المزاجيات الطائفية اللبنانية. منهم من صار لبنانيا حاصل على الجنسية اللبنانية، وسوادهم الأعظم انحشر في مخيمات تضخمت بانتظار “العودة”، وسط إجماع لبناني في وثيقة إنهاء الاحتراب الداخلي في “الطائف” على رفض التوطين.
الخوف من ذلك “التوطين”، وبالتالي الخوف من المساس بالتوازنات الطائفية الداخلية، دفع البلاد إلى أتون حرب أهلية (1975 – 1990) تعددت شعاراتها الواهمة، فيما حقيقتها تتأسس على واقع رفض المارونية السياسية لهيمنة إسلامية تطيح بما أطلق عليه اسم “الامتيازات”. وما هواجس اليوم التي أطلقت قوانين “الفيزا” لأول مرة في تاريخ العلاقات اللبنانية السورية، إلا انعكاس لقلق حقيقي تعانيه كل، أو أغلب الطوائف، من مغبّة التغييرات الكبرى الذي قد يحدثه اللجوء السوري (بعد الفلسطيني) على النسيج اللبناني ومتانة خلطته.
تعبّرُ التدابير اللبنانية الجديدة بحقّ الوافدين السوريين عن مخاض موجع لإخراج هذه الولادة العسيرة الفهم. القراراتُ صادرة عن الحكومة اللبنانية التي تمثّل هذه المرة، للصدفة، كافة المشارب الطائفية للبلد (تحت مسمى حكومة المصلحة الوطنية)، وبالتالي فإنها قرارات تحظى بإجماع كامل، بالرغم من التحفّظات الفلكلورية التي تواكب ولا تعاند الأمر الواقع. ومع ذلك فإن تسويق تلك القرارات غير مقنع وتعوزه الحجّة الأخلاقية.
لم يعترف لبنان الرسمي بالنازحين السوريين بصفتهم لاجئين هاربين من كارثة ديارهم. بسبب حساسيات طوائفه رفض لبنان إقامة مخيمات رسمية تدير شؤون اللاجئين الجدد. خاف المهووسون بالتوطين من مخيمات تقام اليوم فتضاف لمخيمات الأمس.
قامت عشرات من المخيمات العشوائية الحبلى بالارتجال والفوضى والعبث، فكان أن أضْحت المأساة السورية في حضن اللبنانيين، في مدنهم وقراهم. يهدد الفائض “الغريب”، السوري هذه المرة، الأمن والاقتصاد ويوميات العيش، ما يتيح للعنصرية أن تروج في شكلها الفجّ (عبر تدابير منع تجول السوريين في بعض الأماكن) أو شكلها الخبيث (من خلال تبرّم وتذمّر يضع العلّة اللبنانية برمتها في سلّة اللجوء السوري).
ينأى لبنان بنفسه، رسميا، عن الكارثة السورية منذ حكومة نجيب ميقاتي التي أتت إثر الإطاحة بحكومة سعد الحريري. هذا الموقف المنافق يستوطن في ثناياه تورط لبناني شبه رسمي (من خلال حزب الله المشارك في الحكومة) في الحرب في سوريا. يقف هذا التورط مباشرة وراء تضخّم أعداد النازحين السوريين منذ معركة القلمون الشهيرة وتداعياتها العرسالية. وحين يعجز أولي الأمر عن معالجة أسِّ المرض (أي وقف التورط اللبناني) يلجأون إلى مكافحة نتائجه مع كل ما يصاحب علاجاتهم من أعراض لا أخلاقية ولا إنسانية.
لكن المجتمعيْن الدولي والعربي متواطئان بشكل سافر في دفع حكومة بيروت لما يشبه إغلاق الحدود أمام النزوح السوري. بقيت وعود المساعدات وعوداً، وتُرك لبنان يواجه الطوفان بقواه الذاتية المرهقة، معطوفة على ارتباك طبقته السياسية الحاكمة. لم تعدْ القضية السورية كافية لإقناع اللبنانيين (حتى من يقف منهم إلى جانب الثورة السورية) بعدالة احتضانهم للسوريين، بعد أن أظهر الصدام في عرسال واختطاف الجنود خطورة الورم وخبث تعاظمه. وبات للعنصرية اللبنانية ما يغذيها حتى لدى من كانت تلك الآفة بعيدة عن ثقافته.
تسكت الطوائف بسياسييها ومراجعها الدينية عن “السابقة” المرتكبة على الحدود اللبنانية السورية، لا بل لا يصدر عن دمشق ما يغضبها من ذلك الإجراء الذي من المفترض أنه مساسٌ بهيبتها ونيلٌ من سيرة تاريخية لطالما كانت تنتهي، لسبب أقل من ذلك، إلى إغلاق الحدود من طرفها.
مسيحيو الجنرال ميشال عون يعتبرون أن أمر الإجراءات الأخيرة وليدُ مواقفهم التي لم تكن تسمع في السابق، فيما مسيحيو القوات يبتلعون الموضوع بغبطة، ويقومون بتسويق صعب لمسألتيْ الانتصار للثورة السورية والدفاع عن داخل البيت اللبناني معا. أما الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) فقلما علّقا على الأمر بما يعكس حبورا ورضى بشأن ما يمكنه التخفيف من ذلك الرعب المذهبي المقبل. وحده وليد جنبلاط يسعى لإنقاذ ماء الوجه من خلال الدعوة إلى التفريق بين ما هو إنساني، وما هو استغلالي (كمشهد حجيج السوريين للسفارة السورية في لبنان للمشاركة في الانتخابات الرئاسية) مؤكداً مسؤولية حكام دمشق وحزب الله عن تلك المأساة.
المفارقة أن الإجراءات الأخيرة تشرف عليها وزارتا الداخلية والشؤون الاجتماعية اللتان يديرهما وزيران سنيان قريبان من فريق 14 آذار، بمعنى آخر تتولى النخبة السياسية السنية تحمل وزر إدارة ملف هدفه التخفيف من هواجس الطوائف الأخرى. والمفارقة أن جل الكتاب والصحافيين وأصحاب الرأي والناشطين في مجال حقوق الإنسان الذين استهجنوا الإجراءات اللبنانية الأخيرة قريبون، بشكل أو بآخر من فريق 14 آذار، فيما يكاد الفريق المقابل يتجاهل الحدث ويعتبره متسقا مع موقفه المتعلق بالأزمة السورية.
السابقة اللبنانية تعبّر بالنسبة إلى البعض عن تمرد لبناني، والبعض يتحدث عن انتقام، إزاء هيمنة سورية تاريخية سيطرت على القرارات السيادية اللبنانية، لاسيما في المسائل الحدودية، منذ ما قبل الدخول العسكري السوري إلى لبنان. بيْد أن ما يمكن أن يكون كذلك في الشكل، يدفع المواطن السوري النازح ثمنه في المضمون. لبنان الراهن يقرّ بحاجته البنيوية الدائمة للعمالة السورية، ذلك أن تلك العمالة رخيصة الكلفة تعمل وفق تشريعات قانونية ركيكة تساهم في صمود “المعجزة” اللبنانية. في ذلك أن البلد، بطوائفه، يستوعب ما يمكن استغلاله، لكنه، بطوائفه، يثقل، في موسم العاصفة الثلجية، على راهن النازحين، ويؤسس لشرخ دراماتيكي في العلاقة المستقبلية للمجتمعيْن السوري واللبناني.
لكن بغضّ النظر عن السجال بين ما هو انساني وما هو إجرائي، تقوم الدولة اللبنانية بحكومتها ومؤسساتها وأجهزتها بما يجب أن تقوم به أية دولة لمواجهة استحقاق كبير كذلك الذي يشكّله دخول حوالي 1.3 مليون نازح سوري، يعادل حجمهم ربع عدد سكان لبنان، إلى الأراضي اللبنانية. والمشكلة ليست في تلك التدابير التي يمكن مناقشتها وتعديلها (لاسيما من خلال الضغط الداخلي وذلك الخارجي الذي يمثّله قلق المفوضية العليا لشؤون اللاجئين). المشكلة في أن تلك الدولة تخنق المنافذ الشرعية التي يمر منها الهاربون من الحرب، وهي غافلة عاجزة عن إغلاق المنافذ العلنية التي تنقل المقبلين على تلك الحرب من وإلى سوريا.

العرب اللندنية _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى