في كل مرة تأتي ردود الفعل العربية على العمليات الإرهابية هي ذاتها، أي أنها، في الأغلب، تدين هذه العمليات، وتتبرأ منها، وتؤكد أن الإسلام منزّه عنها، وذلك مع إحالتها إلى أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتاريخية، وهذا ما حكم ردّات الفعل على الأحداث الإرهابية التي ضربت في فرنسا قبل أيام، وأودت بحياة 17 من مواطنيها.
بيد أن ذلك كله، وهو صحيح، هو الحد الأدنى المطلوب أخلاقيا ومعرفياً، حيث أن الجريمة هي جريمة، ولا توجد جريمة تبرر أخرى، إلا أنه غير كاف، ولا يقدم شيئاً، من الناحية العملية.
هكذا، ينبغي مواجهة هذه الظاهرة بمعالجة أسبابها، لعزلها في إطار المجتمع ذاته، ما يتطلب تفكيك المنظومة السياسية والاقتصادية والثقافية التي تنتج الإرهاب، وليس فقط مواجهتها عسكريا، لأن التأثير في المجالات الأولى هو الأعمق والأكثر جدوى وديمومة.
في هذا الإطار، بات بديهيا أن الإرهاب يتغذى من وجود الأنظمة التسلطية، التي تتأسس على الاستبداد والفساد، والتي تعزز حال الإفقار والظلم والإحباط في المجتمع، كما يتغذى من الجهل وتدهور مستوى التعليم، والتلاعب بالدين.
بهذا المعنى، وإلى جانب المعركة ضد الاستبداد، فإن الصراع على الدين، أو على مقاصد الدين، يغدو بمثابة المعركة، التي لابد منها، على الوعي، في مواجهة الجماعات الإرهابية والتكفيرية المتطرفة، والتي ينبغي خوضها من قبل كل التيارات، وضمنها التيارات الدينية المستنيرة، أو المعتدلة، لنزع قناعها الديني، ودحض إدعاءاتها، وتقويض شرعيتها.
والمعنى من فكرة الصراع على الدين أن الأمر لا يتعلق بما يسمى الإصلاح الديني، وهو المصطلح الأثير لدى الكثير من المفكرين من رواد النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر حتى عصرنا الحاضر، وإنما يتعلق تحديدا بإصلاح أحوال البشر، لأنهم هم الذين يحملون الدين ويطبعونه بطابعهم.
هذه المعركة تتطلب ضرورة التمييز، أولا، بين الدين، وضمنه الدين الإسلامي، والسلطة، أو الممارسات السياسية أو السلطوية التي تغطّت به، والتي أسهمت في الترويج لأنماط معينة من الدين. وثانيا، تفكيك العلاقة الملتبسة والمتخيلة بين الدين والحوادث التاريخية، التي شكّلت الدين على النحو السائد الذي بتنا نعرفه به، رغم اختلافه في كثير من جوانبه، عن الدين كما بدا في صورته أو في مقاصده الأولية.
فوق كل ذلك فإن المشكلة تكمن، أيضا، في أن الأديان لم تعد ذاتها، إذ أن مخيلة البشر أضفت عليها نوعا من الأسطرة، بعد أن أسبغت على الحوادث التاريخية التي أسست لها قدسية، أو مشروعية دينية، مصطنعة بحيث أضحت جزءا من الدين، أو حتى أنها حلت محله، لاسيما مع ملاحظتنا تضاؤل مكانة القيم، وبالتالي تدنّي مكانة المعاملات، لصالح مكانة الطقوس والرموز والشخصيات التاريخية، في أنماط التدين السائدة.
وكانت المجتمعات الأوروبية استطاعت أن تنهض بأوضاعها، بعد مرحلة الحروب الدينية، أو بعد الصراع على الدين (بين القرن 16 والقرن 18)، علما أن هذه المرحلة لم ينتج عنها نفي الدين، بقدر ما نتج عنها احترام الدين، بحجبه عن دائرة الاستغلال والتلاعب لأغراض سياسية والسلطة والهيمنة. لهذا بالذات أصبحت هذه المجتمعات ما هي عليه، من حرية وتسامح ومساواة، إلى درجة تقبلها أتباع دين آخر، مع إتاحتها هجرة ملايين المسلمين، وقبولهم بين ظهرانيها، في مقابل أن دولا عربية لا تسمح بتوطين مواطن عربي آخر فيها. لذلك ومثلما أن الأنظمة الاستبدادية تقتلنا، فإن الجماعات الإرهابية التكفيرية تقتلنا، وهي في عملياتها في أوروبا تفعل ذلك أيضا.
العرب اللندنية _ وطن اف ام