ما حدث جراء سقوط الموصل كان مفاجأة كبيرة لمن لم يكن متابعا للأوضاع ومدركا للمخاطر هناك. فقد عاشت المدينة حالة من الاضطراب السياسي والأمني خلال السنوات الـ3 الأخيرة، ولم تتدخل الكتل السياسية ولا الأميركيون من أجل الوصول إلى حلول مناسبة، ويبدو أن المعنيين بما حدث سيخرجون من المحاسبة سالمين.
ونتيجة هول الصدمة اهتزت الروح المعنوية لكثير من العسكريين ومعظم السياسيين الذين هرب كثير منهم من بغداد والعراق خوفا من الوقوع بيد «الدواعش» أو من حالة انفلات لم يكن مستحيلا حدوثها. ولم تكن قوات الاحتياط المركزي كافية والاحتياطات المحلية قد استنزفت، ولم ترتق الأركان العامة للجيش ووزارة الدفاع إلى مستوى المسؤولية، فأصبحت الصورة سيئة في كل مكان من العراق.
الحقيقة التي لا هروب منها وإنكارها هي أن إعلان المرجعية الدينية الشيعية العليا التصدي لداعش والاستجابة الشعبية المذهلة عدديا وسرعة واندفاعا من بغداد حتى أبعد نقطة على حدود الكويت كان السبب الأكبر في توفير قوات ضاربة مؤلفة من مئات آلاف المقاتلين. ولا شك في أن الحكومة المركزية اتخذت تدابير وقامت بالتنسيق والتوجيه ومحاولة لملمة الأوضاع وإعادة ترتيب الأوضاع والرد ضمن الحدود المتاحة. أما قوة التفكير الاستراتيجي، واحتواء الخلافات السياسية والسيطرة عليها، وتأمين السلاح والعتاد، وتعبئة وتنسيق الجهد، وتخطيط شن الضربات المقابلة الرئيسية فكانت إجراءات إيرانية بامتياز، بقيادة وتوجيه أو إشراف الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس والمسيطر الأول على الملف العراقي. منذ البداية ورغم شح المعلومات، حيث غالبا ما تكون متابعة تحركات الحرس الثوري الإيراني وقوات فيلق القدس معقدة للغاية، فحتى خلال حرب السنوات الـ8 غالبا ما كانت المتابعة تتم من خلال الاستدلال بتحركات قوات الجيش النظامي، توفرت لنا قناعة عالية بدفع وحدات عمليات خاصة صغيرة إيرانية عبر الحدود، وما يقال عن مستشارين ليس إلا غطاء في مراحل تتميز بالحساسية في وقت حدوثها. وسوف يأتي يوم يعلن فيه الإيرانيون حجم الخسائر البشرية التي تكبدوها في عملية صد «الدواعش» عن بغداد وغيرها، وهي أكثر كثيرا من الأرقام المعلنة عن بضعة ضباط. والحقيقة الأخرى التي كانت بعض ملامحها واضحة هي أن النائب هادي العامري والكوادر القيادية لمنظمة بدر، وقيس الخزعلي قائد العصائب، وأبو مهدي المهندس قائد «حزب الله العراق»، وقادة في التيار الصدري، كانوا على رأس قوات تصدت لـ«الدواعش»، إلى جانب قوات ضخمة من الحشد الشعبي بشجاعة. ولا يجوز أن يبخس حق قادة عسكريين شجعان تصدرهم اللواء أحمد صداع الدليمي الذي قتل في معارك الأنبار، وتميز عدد محدود من عشائر الأنبار والجبور باندفاعهم، وشاهدنا اثنين من المحافظين قاتلا في الصفوف الأمامية هما محافظ الأنبار الضابط السابق الشجاع أحمد الدليمي، ومحافظ صلاح الدين الشجاع الدكتور رائد الجبوري. وحاولت أن أجد خيطا يصلنا إلى موقف شجاع أو متميز لسياسيين من أبناء المدن التي «احتلت أو احتلت أطرافها» يبنى على أساس مرافقة القوات وارتداء تجهيزات قتالية فلم أجد ربما إلا حالة أو حالتين!
أما الموقف الكردي. فخلاف كل الادعاءات والدعايات ومنها ترويج أميركي أكثر من اللازم، فقد قاتلت قوات بيشمركة الاتحاد الوطني الكردستاني ومعظمهم من أبناء السليمانية وأربيل قتالا مشهودا، وكان لمحافظ كركوك الدكتور نجم الدين كريم دور في القيادة والتوجيه، أما قتال البيشمركة في غرب أربيل فلولا الضربات الجوية المكثفة نسبيا، ولولا التدخل الإيراني حيث قام سليماني بزيارة إلى هناك، لأصبحت الصورة أكثر سوءا بعد نكبة الإيزيديين في سنجار والشبك والتركمان والمسيحيين في أطراف الموصل. وإذا كان القادة السياسيون والعسكريون قد أدوا مهمتهم، فالذين يستحقون الإشادة هم أولا الذين تطوعوا للقتال من المدنيين ولم تكن مدنهم مهددة، وكذلك الجنود الذين قاتلوا في ظروف غاية في التعقيد وضحى آلاف منهم بأرواحهم، علما أن أكثر من ألف من قوات البيشمركة قد فقدتهم أسرهم. فكم بلغت تضحيات الحشد الشعبي والعشائر وجنود الجيش والشرطة؟
ولا شك أيضا في أن ضربات التحالف الجوية أسهمت بشكل مهم في كبح جماح «الدواعش»، وساعدت المؤتمرات والتوجهات الغربية في توجيه ضغط عليهم، إلا أن المطلوب أكثر من هذا كثيرا في مجال الإسناد الجوي القريب، الذي لم يحدث حتى الآن كما يفترض.
الشرق الأوسط _ وطن اف ام