تبدو أحوال الليرة السورية أكثر ما يشغل السوريين المقيمين في مختلف مناطق البلاد، إذ يؤثر حال الليرة السورية على عموم الحياة اليومية للمواطنين. والثبات النسبي لقيمة الليرة السورية قبل الثورة، كان مرهوناً على نحو ما بأداء «مصرف سورية المركزي»، الذي سعى إلى الوصول إلى توازن بين واردات سورية من القطع الأجنبي، عبر عائدات تصدير النفط وبعض المواد الأولية، وإيرادات قطاع السياحة، وصادرات القطاع الخاص، وتحويلات المقيمين في الخارج وغيرها، وبين القطع الأجنبي الخارج من البلد لتسديد قيمة كل ما يستورد من الخارج، سواء كان بتمويل من القطاع العام أو الخاص.
ووفق أرقام المصرف المركزي، نجح الأخير اعتباراً من 2004 وحتى ما قبل الثورة بعام، في زيادة احتياط العملة الأجنبية ليقارب خمسة بلايين دولار عام 2010. إلا ان المصرف المركزي والليرة السورية، مع انطلاق شرارة الاحتجاجات الشعبية، أصبحا تحت ضغط متواصل، ما أدى إلى اختلال التوازن وتراجع دور المصرف، فواردات الدولة من العملة الأجنبية انخفضت في شكل متزايد، ابتداءً بتوقف إيرادات النفط والسياحة وانتهاءً بشح الصادرات السورية، بالإضافة إلى ما استنزف من عملة أجنبية عبر هروب رؤوس الأموال، فقد ازدادت تلك العملية في شكل واضح، إذ نجح المئات من رجال الأعمال والمصارف الخاصة في إخراج الأموال من سورية، فضلاً عن حاجة النظام إلى صرف مبالغ طائلة على صفقات أسلحة ووقود ورواتب لضمان استمرار عمليات جيشه والميليشيات التابعة له.
ما يرجح هنا هو ان المصرف المركزي كان مجبراً، على رغم الدعم المالي الإيراني (العيني والمباشر)، على تغطية العجز الناتج من تفاوت الأرقام بين طرفي المعادلة باستخدام الاحتياط الأجنبي المتوافر لديه بالإضافة إلى ما تضخه المنظمات الدولية ومؤسسات المعارضة. وباستمرار نزيف الاحتياط المذكور فقدَ المصرف أهم أدواته وأمسى غير قادر على إيقاف الانحدار التدريجي لقيمة الليرة السورية، حتى تجاوز سعر الصرف في السوق 230 ليرة سورية للدولار بداية 2015، بينما كان سعر الصرف 48 ليرة للدولار نهاية 2010.
هذا التدهور للعملة السورية سيستمر طالما مدخول المصرف المركزي من العملة الأجنبية بهذا الشح، خصوصاً في ظل غياب أي حل سياسي أو عسكري في أفق الصراع. وأمّا مناورات المصرف المركزي السوري وتدخله لشراء العملة السورية من السوق وضخ نظيرتها الأجنبية، فإنها لا تتعدى كونها مثبطات مؤقتة.
إن تدهور الليرة السورية بالمحصلة يضعف النظام، لكنه يضرّ أيضاً بالآلاف من الموظفين الذين ظلت رواتبهم كما هي، في حين تهاوت القوة الشرائية للّيرة، وعليه فقد خسر كل من كانت مدخراته بالليرة السورية. من البديهي ان تضرر السوريين بسبب تدهور الليرة يعد شيئاً ثانوياً مقارنةً بحجم العنف الذي استخدم من قبل النظام، وأدى إلى تشريد الملايين من المدنيين وتدمير أجزاء واسعة من مدن وبلدات وقرى سورية، ناهيك عن تأثر الكسبة بالانهيار الذي أصاب الاقتصاد والبنية التحتية، الأمر الذي يبرر جزئياً حملات مقاطعة الليرة السورية وشعارات مثل «كيف نتداول عملة النظام الذي يقتلنا وندعم اقتصاده؟».
وبهذا الخصوص يصح القول ان جزءاً من العملة الأجنبية الآتية من مساعدات الدول للمعارضة، لا يزال ينتهي إلى المصرف المركزي السوري. فالأموال المرسلة إلى المناطق التي يحاصرها النظام أو التي تقع تحت سيطرته تحوّل إلى العملة السورية لشراء البضائع من السوق المحلية، أي ان هذه الأموال تدخل السوق ويذهب جزء منها لدعم اقتصاد النظام. ويبقى تأثير هذه العملية محدوداً بكمية الأموال المحوّلة، ويتراجع بفعل النقص الهائل لدى النظام من العملة الأجنبية وابتكار السكان المحليين في بعض المناطق المحاصرة، مثل الغوطة، لمشاريع محلية للاكتفاء الذاتي، أي بقاء العملة في شكل أكبر ضمن تلك المنطقة المحاصرة.
أما بالنسبة إلى المناطق الشمالية المحررة وتجارتها مع تركيا والعالم من خلالها، فساهمت هذه التجارة في الحدّ من التبادل الاقتصادي مع المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وبالتالي تقليص تدفق العملة الأجنبية إليها. فالتعامل يجري بالدولار بدلاً من الليرة السورية، حتى التجار من الفئة الوسطى باتوا يتعاملون بالدولار بدلاً من الليرة، وكذلك باتت تقتضي سياسة القوى المناهضة لنظام الرئيس بشار الأسد والعديد من المنظمات، الأمر الذي ساهم في تقليص دور الليرة السورية. وهكذا تسير الدولرة الجزئية للاقتصاد في الشمال المحرر بطريقة تدريجية لكن مؤكدة، فإذا استقر الأمن في هذه المناطق وأصبح الإنتاج فيها ممكناً لينافس ما ينتج في مناطق النظام، أمكن ان تصبح العملية عكسية، أي دخول العملة الأجنبية من مناطق النظام إلى المناطق المحررة.
أمّا الأزمة الأخرى التي يعانيها المصرف المركزي فهي عجزه عن طباعة الليرة السورية التي كانت تطبع في النمسا بسبب العقوبات الأوروبية، ما أدّى إلى ظهور طبعة جديدة من فئة 500 ليرة في 2014، والتي لا تشبه النسخ القديمة ويمكن تمييزها. الليرة الجديدة طُبعت على الأرجح في روسيا، ولا قيمة فعلية لها بسبب انهيار الاقتصاد السوري، إذ يستبعد ان تكون هذه العملة قائمة على سندات من العملة الأجنبية أو الذهب لدى النظام.
ويبدو ان ضخ «الطبعة الروسية» في السوق يعتبر احد العوامل التي سرّعت من تدهور الليرة، لكن بما أنها قابلة للتمييز عن «الطبعة النمسوية»، بدأت قوى المعارضة على الأرض بمقاطعتها والتحذير من تداولها، وان استمر المصرف المركزي في ضخ النسخة الروسية فقد يؤدي الأمر في نهاية المطاف إلى طرح سعرين للصرف، سعر للنسخة النمسوية، وسعر للنسخة الروسية.
نهايةً، يبدو ان لا خيار أمام السوريين في المناطق المحررة سوى الدولرة الجزئية للاقتصاد والتقليص التدريجي لتداول الليرة، من المؤسف القول ان معاناة الشعب ستستمر إلى ان توجد إرادة دولية لإيجاد حلّ للمأساة السورية. عندها يمكن طبع عملة جديدة، لتصبح الليرة التي تحمل صورة الأسد من الماضي.
الحياة _ وطن اف ام