ثمة افكار ورؤى عملية غابت عن اجندات المشاركين في لقاء وزراء خارجية دول الاتحاد الاوروبي الـ 28 وثماني دول من جنوب المتوسط الذي انعقد امس في برشلونة، وانتهى بالدعوة الى «تعزيز التعاون في مواجهة الارهاب»، لكن دون الاتفاق على خطة او اجراءات واضحة.
وتزامن اللقاء الذي انعقد في توقيت حرج، مع حديث صريح ادلت به مفوضية شؤون العدالة في الاتحاد الاوروبي فيرا جوروفا لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية قالت فيه ان ستة آلاف مواطن اوروبي يشاركون حاليا في الحرب في سوريا في صفوف تنظيم «الدولة»، مرجحة «ان الرقم الحقيقي قد يكون اكبر كثيرا».
واعترفت جوروفا، وهي تشيكية وتشن حملة لتأسيس مكتب مدع عام اوروبي موحد، للمرة الاولى بأن تركيز اجهزة الأمن على الشباب الراغبين في السفر الى سوريا، او العائدين منها يشير الى تأخر التدخل الاوروبي في النزاع هناك.
وقالت وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي فيدريكا موغيريني في كلمة امام لقاء برشلونة، لم تنقصها الصراحة كذلك، ان «جميع دول المنطقة تواجه وضعا امنيا هشا ازداد تدهورا بسبب العديد من النزاعات المسلحة وخاصة في سوريا وليبيا». وتابعت «نحن نلاحظ تزايدا في التطرف بين شبابنا الذين يلتحقون باعداد اكبر بالجهاد في شمال وجنوب المتوسط».
الواقع ان مجرد انعقاد لقاء برشلونة دليل في حد ذاته على مدى القلق الذي تشعر به اوروبا من السرعة التي ينتشر بها الخطر الارهابي، والذي لم يعد يبعد اكثر من مائتي ميل عن شواطئ ايطاليا، ثم من القصور الواضح في سياساتهم الحالية المخصصة لمواجهته.
لكن يبدو ان الجانب العربي في ذلك اللقاء كان من ينقصه الصراحة في معالجة هذا الملف الاخير، ربما لاعتبارات دبلوماسية، اذ فشل في وضع الاوروبيين امام مسؤولياتهم التاريخية والسياسية عن وصول الاوضاع الى هذا المستوى من التردي، والذي اصبحت معه اوروبا ضحية ومصدرة للارهاب في آن.
وحسب احصائيات تعود الى العام 2013، يقول جهاز الاستخبارات المحلية الالمانية BFV، انه يتابع ثلاثين تنظيما اسلاميا متطرفا تعمل من الاراضي الالمانية، فيما تشير دراسة للمعهد الدولي لمكافحة التطرف وسياسة العنف ICSR، والذي يحظى باحترام اكاديمي واسع، بان عشرات الأشخاص من السويد والدنمارك وبلجيكا يواصلون السفر الى سوريا للانضمام الى القتال في صفوف التنظيم، فيما وصل عدد الألمان الى نحو سبعمئة، بينما تحتل فرنسا الصدارة بنحو ثلاثة آلاف.
ولا شك ان تلك الآلاف من المقاتلين الاوروبيين شكلوا جزءا من «وقود المحرقة السورية» التي راح ضحيتها اكثر من مائتي الف انسان حسب احصائيات متقاطعة.
وكان الأجدر بأوروبا وهي تدير وجهها الى الجانب الآخر عن هذه المأساة الكونية في حجمها، ليقتصر تدخلها عمليا على تصدير الارهابيين الى سوريا، ودعم بعض جماعات المعارضة المفتقدة للمصداقية والأهلية، أن تبدأ بنفسها بأن تعالج اسباب التطرف بين الجاليات الاسلامية، وبينها ما تعانيه من اوجه الاقصاء الاجتماعي والاهمال الثقافي، بدلا من الاكتفاء بالقاء المحاضرات على جيرانها الجنوبيين في حقوق الانسان.
وليس المقصود هنا الدفاع عن الاوضاع المزرية لحقوق الانسان في الدول العربية بشكل عام، لكن التأكيد على ان اوروبا تحتاج الى ان تبدأ بنفسها ان كانت جادة حقا في مكافحة الارهاب.
ولقد اصابت الوزيرة الاسبانية عندما اكدت «ان مكافحة الارهاب تتطلب تعاونا اكبر في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والامنية»، الا ان هذا الاقرار المتأخر باهمية الأبعاد غير الامنية يبقى مجرد شعارات جوفاء ان لم تصحبه خطة عملية.
فهل اوروبا مستعدة للاستثمار في «مشروع مارشال» اقتصادي وثقافي وسياسي، لبناء حائط صد جنوب المتوسط يحميها من «جيوش المهاجرين غير الشرعيين» المستعدين لمواجهة الموت نفسه هربا من تدهور الأوضاع بفعل الارهاب الى جانب الفساد والقمع والفقر؟ وهل تقارن الاموال المطلوبة لهكذا مشروع بالمليارات التي اهدرتها بعض الحكومات الاوروبية في تدمير العراق على سبيل المثال؟
وهل تملك اوروبا الشجاعة والارادة السياسية لتشديد القوانين في مواجهة صعود اليمين العنصري المتطرف وخاصة الحركات المعادية للاسلام؟ وهل يمكن ان تبادر حكوماتها الى تفعيل القرارات البرلمانية التي صدرت مؤخرا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية مثلا؟
هذا قليل من كثير كان يمكن للوزراء العرب المشاركين في لقاء برشلونة ان يطرحوه على مضيفيهم الاوروبيين، لكنهم التزموا صمتا رهيبا، لن يؤدي الا لـ «تصدير متبادل» للارهاب بين شاطئي المتوسط، بدلا من مواجهته، ثم كثيرا من الندم بعد ان يفوت الاوان.
القدس العربي _ وطن اف ام