لا يمكن اختزال ما يجري اليوم في مخيم اليرموك بالمساحة الجغرافية له، إذ لم تكن قواه البشرية والمدنية والعسكرية يوماً منعزلة عما يحدث في الإقليم والعالم، بل كانت في صلبها، بفعل الحضور اليومي والطاغي للقضية الفلسطينية على امتداد عقود، وبفعل الاستخدام الإيديولوجي (ممانعة ومقاومة) للنظام لها، وبفعل قوة اعتماد النظام على الساحات الخارجية (واليرموك بالنسبة للنظام ساحة خارجية) لضبط داخله. استخدم النظام الوجود الفلسطيني في سورية ليوّسع امتداداته الخارجية إلى القضية التي تاجر بها كثيراً، معزّزا بالأوضاع الجيدة نسبيا التي منحت لفلسطينيي سورية، مقارنة بدول الجوار، روايته عن الممانعة والمقاومة، ليمد يده إلى فصائلها (حماس والجهاد والجبهة الشعبية..) التي استثمرها خارجيا، من دون أن ينتهي بقضية حق العودة التي ظلت فيتو مرفوعاً في وجه اتفاق أوسلو، وأيّ محاولة للتوصل إلى اتفاق فلسطيني إسرائيلي ناجز.
مع اندلاع الثورة السورية، كان فلسطينيو سورية أكثر خبرة وتراكما في ميدان الحراك والعمل المدني، فوضعوا خبرتهم في جعبة السوريين المطالبين بالحرية، لينطلقا معاً في مسار الثورة التي أدت إلى انفكاك قوى فلسطينية عن النظام ( حماس)، بحكم انضوائها في تحالف الإخوان المسلمين الأوسع، ليتبين أن كل طرف (حماس والنظام) كان يستخدم الآخر أداتيا، ليخسر النظام أحد أوراقه الخارجية، مضافاً لها ورقة الثائرين في المخيم، حين عجزت الفصائل التابعة له عن احتواء التظاهر، ومن ثم الانخراط المسلح الذي شرعته المعارضة رسمياً على لسان جورج صبرا، حين قال “المخيم أرض سورية، ولن يمنعنا أحد من دخول مخيم اليرموك، لأن هذا يهيئ لحسم معركة دمشق!”، الأمر الذي يحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء، لمعرفة ما إذا كان الأمر من بنات أفكار صبرا أم ثمة من أوحى له بذلك، غير مدرك أهمية تقاطعات المخيم الدولية، وما يوفره بذلك للنظام من أوراق مساومة، خصوصاً أن تلك القوى رابطت في المخيم وريف دمشق كله عموما، ولم تتحرك باتجاه دمشق بعد!
وكون الوجود الفلسطيني في سورية ليس محكوما بالمعادلة السورية وحدها، بل بمصالح إسرائيل الساعية إلى نسف حق العودة، وبالسلطة الفلسطينية الساعية إلى التحرر من ضغط هذا الحق على المفاوضات، وبالفصائل المعارضة لنهج أوسلو والرافعة لواءه في وجه السلطة لإحراجها، وإيجاد موطئ قدم في القضية، يوفر لها إيديولوجية تتاجر بها، وبالصراع الإقليمي (الرياض، الدوحة، أنقرة، إيران) الساعي إلى امتلاك “سلعة” الورقة الفلسطينية بيده، بما تتيحه من جواز مرور إلى قلوب الجماهير التي تربت على “القضية”، وللتدخل في قضايا المنطقة لتوسيع نفوذها الإقليمي، من دون أن ينتهي الأمر بالصراع الدولي الذي يأخذ المصلحة الإسرائيلية بعين الاعتبار في أغلب السياسات المتعلقة بالمنطقة، ما يعني أن المخيم، ومن خلفه الوجود الفلسطيني، وفر للنظام ورقة مساومة في تعاطيه مع الخارج، وهو ما يستثمره منذ بداية الثورة، وخصوصاً بعد غرق المخيم في السلاح وصراع الكتائب الإسلاموية والإرهابية فيما بينها.
من بوابة مخيم اليرموك والوجود الفلسطيني، أعاد النظام السوري علاقته مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو ما تجلى في زيارات أو تواصل مسؤوليها مع دمشق، كان آخرها على خلفية مأساة المخيم بعد دخول داعش، إذ يعمل النظام المعزول دبلوماسياً على استثمار أي حدث ليعيد تحركاته الدبلوماسية، ساعياً إلى أن تكون السلطة الفلسطينية أحد الجسور لإعادة تسويقه دوليا، وهو ما تجلى فيما نقل عن الرئيس محمود عباس سابقا تسويقه لترشح الأسد “مواطناً”، وموجها (النظام) رسالة للمنشقين عنه من الفلسطينيين بأن خياراته البديلة جاهزة. ولعل ما قيل عن اتفاق النظام والسلطة على تشكيل قوة مشتركة في المخيم يبين مدى سعي النظام إلى الاندراج في تحالفاتٍ تبدو حاجته لها أكثر من حاجته إلى الحسم العسكري، أو الغطاء الفلسطيني الذي لم يحترمه يوما، ساعياً إلى استعادة شرعيته العربية والدولية المفقودة من هذا الباب، ومستغلاً، في الوقت نفسه، حاجة “المجتمع الدولي” للانتهاء من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بما يضمن الأمن الإسرائيلي.
من جهة ثانية، شكل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم أرقا مزمنا لإسرائيل، الساعية إلى أن تكون دولة يهودية صافية، ولا يزال، وهو ما يوفر للنظام ورقة مساومة أخرى، في معادلة قد تكون: بقائي مقابل تدمير حق العودة بتشريد الفلسطينيين مرة أخرى، ومنع إعادة التئامهم في مخيمات أو تجمعات لنسف الوجود الفلسطيني من أساسه، وهو ما تقوم به قوات النظام قصفاً وتشريداً، في حين تعمل منظمات دولية، ودول أخرى، على ترحيلهم وتوطينهم في بلاد بعيدة، ليكتمل طرفا الكماشة، وينتهي حق العودة تدريجيا.
ولعل عدم مغامرة النظام، حتى اليوم، بدخول مخيم اليرموك، يشي بأنه لا يزال يساوم على الأمر، بانتظار الفوز بورقة تأهيله، أو إبقاء المخيم ورقة ضغط، وبوابة “علاقات عامة” مع الخارج، يسعى إلى استعادة نشاطه الدبلوماسي من خلالها، كي يبدو “نظاما طبيعيا”، يحارب إرهاب داعش، ويبني مظلة سورية فلسطينية لهذا الشأن، فإن نجح يتم محاربة داعش من هذه البوابة، وإن لم ينجح يسمح بدخول داعش وتمددها، في استراتيجية باتت واضحة ومطبقة على الأرض، سامحاً بتمدد الإرهاب في كل منطقةٍ لا يستطيع السيطرة عليها، سعياً إلى جعل المقاربة السورية تختصر بـ: نظام وإرهاب يتكفل بدحر الثورة، حين لا ينجح هو، ساعياً إلى إعادة تأهيل نفسه من هذا الباب.
المصدر : العربي الجديد