وثيقة وكالة الأمن القومي الأميركي المسربة التي تضمنت تصنيفي عضوا في القاعدة والإخوان المسلمين بالإضافة إلى عملي في شبكة الجزيرة، حملت من التناقضات ومن بذور فنائها، ربما ما لم تحمله وثيقة من قبل.
فقد تضمنت الشيء ونقيضه، ومعلومات واستنتاجات يربأ عنها الصبية فضلا عن وكالة أمن قومي لأقوى قوة في العالم، فالأغاليط التي احتوتها الوثيقة تمس فعالية الأمن القومي الأميركي، وتُعرضه للخطر الحقيقي كونها تظهر هشاشة وضعف وضحالة من يعدون وثائق كهذه.
هذا بالإضافة إلى خطورتها الأعظم في تشكيلها تهديدا خطيرا وجديا على حياتي الشخصية بالنظر إلى أحداث وقعت لأبرياء سقطوا ضحية معلومات زائفة كهذه، هذه الوثيقة المزيفة أعادت بي الذكريات إلى تاريخ مهم في حياتي الصحفية أرى من المفيد سرده الآن لأضع الأمور في سياقاتها لأخلص إلى تفنيد ما في الوثيقة.
لم أكن قلقا كما كنت يوم الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2001، قلق ممزوج بنشوة سبق صحافي متوقع، وأقول متوقع لأن الوسيط لم يجزم لي بوجهتي أو بالهدف من زيارة قندهار معقل حركة طالبان أفغانستان وتنظيم القاعدة، كل ما قاله الوسيط الذي تحدث بلغة عربية سليمة على الهاتف إننا نريدك غدا في كويته عاصمة إقليم بلوشستان المحاذي لأفغانستان وإيران، لنتوجه سوية إلى الداخل للقاء أشخاص مهمين.
الكلمتان الأخيرتان كانتا كافيتين للتحليق عاليا في سماء الصحافة والشهرة وهو ما يطمح إليه أي صحافي، يومها لا أدري لم كنت حريصا على سؤال أحد الضباط المتقاعدين عن الفترة التي يحتاجها من يحصل على معلومة بوجود هدف له في مكان ما ليُطلق عليه صاروخا يستهدفه ويقتله، ربما كنت مسكونا بالخوف الذي ينتاب أي صحافي يلتقي أشخاصا مطلوبين فيكون سببا لقتلهم والتخلص منهم فيتحول هو بنفسه إلى ضحية هامشية لا قيمة له.
حالما وصلت إلى كويته كان الوسيط بانتظاري في مطار المدينة، نقلني مع أصدقاء أفغان له بسيارة إلى مكان ثان وثالث ورابع، ومارس كثيرا من أساليب التضليل والتمويه والخطط البوليسية التي تابعناها في المسلسلات، وصلنا إلى مطار قندهار ومنه إلى مكان آخر وثالث ورابع، تخلل ذلك عمليات التسليم من شخص إلى آخر، الأرض جديدة علي وكذلك الأشخاص على الرغم من أنني زرت قندهار قبل خمسة أعوام حين سجلت ثاني لقاء صحافي مع زعيم حركة طالبان الملا محمد عمر بعد زميلي وصديقي الباكستاني رحيم الله يوسف زي.
بدأت المخاوف تتراجع، فولوج الخطر يُبددها، لكنني ظللت أفكر بما قاله الضابط الباكستاني المتقاعد من أن الفترة بين المعلومة عن وجود هدف وتنفيذ الهجوم لا يتعدى عند الأميركيين العشرين دقيقة، مرّت الساعات بسلام على حضور حفل عرس عبد الله نجل أسامة بن لادن على كريمة قائده العسكري أبي حفص المصري ثم لقائنا المنفرد بحضور بعض قادة القاعدة.
كان الواضح أن بن لادن يسعى لاستخدام المناسبة لكسر حصار إعلامي فرضته عليه حركة طالبان أفغانستان بضغط أميركي، لم يُسمح لي يومها بكاميرا أو آلة تسجيل، حرصت على تدوين كل ما قاله لاحقا كتابة لأنشره في كتابي بن لادن بلا قناع، لكن مع نهاية الرحلة المضنية و”الجيمس بوندية” سلمني خالد شيخ محمد يومها شريط فيديو سجلوه للحفل لا يتجاوز الثلاث دقائق لأستفيد منه في إعداد تقرير لقناة الجزيرة لاحقا.
كان ذاك آخر لقاء لي مع بن لادن، فقد سبقه قبلها لقاء في كابل في نوفمبر/تشرين الثاني 2000 حيث تبنى بشكل غير مباشر مسؤوليته عن تدمير البارجة الأميركية يو إس كول في ميناء عدن، بعدها بدأت حرب الأشرطة “البنلادنية” التي كنت وسيطا في بعضها.
وعلى الرغم من أنني تلقيت أول شريط يتحدى فيه بن لادن الغارات التي استهدفته في توره بوره بجبال ننغرهار في نوفمبر/تشرين الأول 2001 ثأرا لهجمات نيويورك وواشنطن، وما تبعه من أشرطة له وللقاعدة على مدى 2001-2011، وإعلاني بكل مهنية صحافية شفافة عن ذلك فإنني كنت أظن أنني أمارس حقي المهني الإعلامي المكفول بكل قوانين الأرض والسماء، وكنت أظن معها أن الصحافي قد يمارس دور المفاوض بين الأطراف حين تلجأ هذه الأطراف إلى كل لغات الأرض باستثناء لغة التفاوض نفسها، فالإعلام كما درسناه ما هو إلا عربة لنقل الأفكار والأخبار لتسهيل اتخاذ القرار الصائب لصانع القرار، أو حق طبيعي للمشاهد والقارئ للوصول إلى المعلومة.
المثير للضحك أن يدع الانسان -كما يقول المثل- “الحمار ويتمسك بالبردعة” وينشغل بالمقدمات بينما خصمه ومنافسه يقدم له نتائجها ليوفر عليه عناء البحث عنها، حينها لا تستطيع إلا أن تشكك بكل شيء، فمع تسريب وثيقة وكالة الأمن القومي التي اتهمتني بتهم كاذبة وملفقة تلفيقا يربأ طفل سياسي أن يأتي بمثله، أصابتني الدهشة في أن يُؤتمن أمثال هؤلاء على أمن أميركا التي عرفناها صغارا بالحرية ومن خلال أفلام هوليود ومبادئ ويلسن وغيرها من المبادئ الإنسانية السامية الرفيعة، فكيف لوكالة أمن قومي أميركي أن تتحدث عن حركتي الصحافية في التنقل من مدن باكستانية عامرة بعشرات الملايين من البشر كدليل على علاقتي بالقاعدة، وتنسى أو تتجاهل لا أدري إعلاني عن زيارات متكررة لقندهار وكابل ومناطق القبائل ولقاءاتي المبثوثة بالجزيرة والتي عرفها القاصي والداني خلال الفترة بين 2001-2011.
وهنا لا بد أن أتوقف عند أمرين مهمين الأول وهو الثغرات المضحكة في الوثيقة والأمر الثاني دلالات الوثيقة المؤرخة في 2012 وقد مرّ على قتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن عام وشهر تقريبا، فهل متابعتي كانت مهمة بعد مقتله ونزوعه إلى تأييد الثورات العربية كما أظهر ما تسرّب من وثائق ابيت آباد التي أفرجت عنها أو عن بعضها المخابرات الأميركية لا ندري؟ وهل الأمن القومي الأميركي يستدعي المتابعة بعد ذلك التاريخ أم قبله؟ أسئلة سأحاول الرد عليها:
1- بداية لا بد أن نشير إلى أن العامة ينظرون بعين الريبة والشك لكل ما يصدر من واشنطن من روايات حول خصومها ومنها ما يتعلق بالقاعدة، ولعل رواية القبض على أسامة بن لادن والتشكيك بها أخيرا، ومن قبلها القبض على صدام حسين والتشكيك بها إضافة جديدة لطاحونة المشككين والمرتابين في السردية الأميركية.
2- المحاكم الأميركية حسمت موقفها من أن ما تفعله وكالة الأمن القومي الأميركي من التنصت والتجسس على الهواتف ومن بينها هواتف الإعلاميين أمر غير قانوني وغير شرعي، وبالتالي إن كانت المقدمات خاطئة وغير شرعية فمن باب أولى أن تكون النتائج كذلك.
3- الوثيقة طافحة بالمتناقضات من أنني أنتمي إلى الشيء ونقيضه بمعنى عضو في القاعدة وعضو في تنظيم الإخوان المسلمين، وهما تنظيمان متناقضان فكريا وعلاقتهما احترابية، وهو اتهام لا يوجهه طالب علوم سياسية صغير فضلا عمن يؤتمن على أمن قومي أميركي، وكل من يعرف القاعدة ومواقفها تجاه الإخوان المسلمين والعداء الفكري المستحكم بينهما، يجزم باستحالة أن يجمع شخص بينهما، وإلا فهل هذه التهمة أيضا تطال المسؤولين الأميركيين والغربيين الذين التقوا الرئيس المصري الإخواني الأسير محمد مرسي، وكذلك اللقاءات مع قادة حركة النهضة التونسية حين كانت في المعارضة أو السلطة، كونها حركة إخوانية؟
4- ما يحصل لي هو قمة رأس جليد للمهنة الإعلامية، فهو ليس استهدافا شخصيا أو استهدافا للجزيرة وإنما استهداف للإعلام ولحرية الوصول إلى المعلومة، فأبسط الحقوق الإعلامية التي كفلتها قوانين الأمم المتحدة والدستور الأميركي والذي ينص في ركن من أركانه على الديمقراطية وحرية التعبير والصحافة، القوانين الأميركية منها هو حق الصحفي في الوصول إلى المعلومة، فهل الوصول إلى مظان الأخبار ومصادرها جريمة، ولو كان جريمة فلماذا لم تقرر أميركا منذ اليوم الأول أن كل صحافي أو وسيلة إعلامية تلتقي بن لادن ستُوضع على قائمة القاعدة والإرهاب.
علما أن الوثيقة الأميركية استنتجت أنني من القاعدة فقط من حركتي والعجيب أن هذه الحركة لم تشمل زياراتي إلى كابل وقندهار ومناطق القبائل، التي تبرعت بالإعلان عنها والكشف عن كل ما قمت به فيها، لكن المثير جدا هنا هو التمييز العنصري في التعامل الأميركي مع الصحافيين الذين يلتقون بالمطلوبين دوليا فحين يلتقي أميركي بن لادن كما جرى للزميل والصديق بيتر برغن عام 1997 ويتحرك من واشنطن إلى قندهار ويتجول في أفغانستان وباكستان فوكالة الأمن القومي الأميركي حينها يكون رادارها قد أطفئ عليه، تماما كما حصل مع الزميل روبرت فيسك الذي التقى بن لادن، ومع صحفيين آخرين باكستانيين وغيرهم، فهل ثمة قوانين أميركية وغربية مزدوجة لحرية الصحافة والوصول إلى المعلومة بحيث يكون العربي الأسمر ممنوعا منها والغربي الأبيض الأشقر مسموحا له بها.
5- المثير للضحك أن تورد الوثيقة أنني أملك أرقام هواتف لأشخاص مهمين، وهل الصحافي معني بأرقام هواتف عمال النظافة مع الاحترام والتقدير الكبيرين لمهمتهم، وهل أنا معني بأرقام هواتف الأشخاص الهامشيين؟ بكل تأكيد فإن عملي الصحافي ومهنية أي صحافي تأتي من حجم وأهمية الأشخاص المؤثرين في الشأن العام والذين يصوغون حياة الشعوب، وإن كانت حركة الصحافيين وأرقام الهواتف هو دليل على تصنيف الشخص كعضو بالقاعدة أو غيرها، فحينها لن يكون هناك صحافة ولا صحافيون ولا حرية إعلام.
6- ظللت على مدى أكثر من عقد أتابع الجماعات الإسلامية المسلحة ومنها تنظيم القاعدة أتابعها وأغطي نشاطاتها وألتقي قادتها وكل ذلك أقوم به تحت الشمس، وفي دولة كباكستان عضو بالتحالف الدولي المناهض لما يسمى بالإرهاب، وأحضر المؤتمرات الصحافية للمسؤولين الأميركيين والغربيين الزائرين لباكستان، ولو كانت المسألة أمنا قوميا أميركيا وعالميا لكان بإمكان وكالة الأمن القومي الأميركي وغيرها استدعائي ومطالبتي بتوضيح كل ما تفكر فيه وتشك فيه، ولكن اللجوء والنزوع إلى المحاكمات الإعلامية، يشير إلى أن القضية لا علاقة لها بأمن قومي أميركي، وإنما تستهدف اغتيالي مهنيا، وربما استباق اغتيال سياسي إذا ما فكرت بالعمل السياسي في بلدي، وقبل هذا كله تعريض حياتي الشخصية والجسمية للخطر كما أسلفت، وهو أمر يذكر بالمكارثية الأميركية، ومحاكم التفتيش الإسبانية.
7- كل الشكر والتقدير لزميلي وصديقي العزيز بيتر بيرغن المحلل الأمني في شبكة السي إن إن 1997 لمواقفه النبيلة في نصرة صديقه وزميله أولا، وثانيا للانتصار لمهنته الصحافية، وهنا أيضا أود تسجيل شكري وتقديري لمنظمة حقوق الصحافيين في نيويورك التي وقفت موقفا مشرفا في التضامن معي والانتصار لي، ولكل الزملاء والمنابر الإعلامية، ومعهم كل المغردين على تويتر وفيسبوك الذين غردوا بكل تفان وإخلاص ومحبة لشخصي وللجزيرة ولحرية الإعلام وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن القيم لم تمت في عالم الأشخاص وإن كانت بعض المؤسسات والإدارات تسعى لقتلها.
هنا أصل إلى دلالات توقيت هذه الوثيقة فكما ذكرت أن الأمن القومي الأميركي باعتراف سدنته قد تأمّن إلى حد كبير بعد قتلهم لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن عام 2011، وثانيا كل سنوات الجمر الأميركية العشر الخطيرة على الأمن القومي الأميركي التي سبقته كنت على اتصال مكشوف ومعلن مع القاعدة وغيرها وأعلن عن كل شريط أو خطوة أخطوها، ومع هذا لم أتعرض لأي مضايقة أميركية لتأتي اليوم وكالة الأمن القومي تسوق هذه التهمة، وكما نقول: “يطعمكم الحج والناس راجعون”.
إذن فما دلالة 5/6/2012، الدلالة واضحة برأيي، فقبلها بثلاثة أشهر تقريبا حققت سبقا إعلاميا بجرأتي على دخول بلدي سوريا التي حُرمت منه منذ كان عمري 18 عاما أيام الدكتاتور السابق حافظ الأسد والد بشار الأسد، واقتحمت معاقل الجيش الحر السوري في محافظة إدلب وسجلت تقريرين مميزين من هناك، فكانت الصاعقة على النظام السوري الذي أعلن عبر التلفزيون الرسمي أنني من القاعدة، لأفاجأ اليوم بعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ بوثيقة الأمن القومي الأميركي التي تكرر اتهامات النظام السوري، بينما كانت نائمة في العسل عن كل ما نشرته تجاه أشرطة بن لادن خلال سنوات الجمر الأميركية.
أخيرا فإن ما تعرضت له هو اغتيال مهني أولا واستباق لاغتيال سياسي، مدفوع بتضليل مخابراتي سوري على ما يبدو، وإن صدقت توجساتي ومخاوفي هذه فأقول حينها هل الأمن القومي لنظام الأسد أهم من الأمن القومي لأميركا وشعب أميركا، وبالتالي فإنني أؤكد على الاحتفاظ بكل حقوقي القانونية تجاه وثيقة الأمن القومي الأميركي وهي وثيقة ظالمة مجحفة بحق أميركا أولا، ثم بحق الإعلام ومهنيته ثانيا، وثالثا بحق مؤسستي الجزيرة وحقي الشخصي.
وانطلاقا من ذلك، وحينها أيضا يحق لنا أن نعيد التشكيك بكل الاتهامات الأميركية التي تُصنف البشر وخلفياتهم، ونتساءل معها أيضا هل سنشهد عصرا يتساوى فيه الصحافيون أبيضهم وأسمرهم وأسودهم، لا فضل لصحافي على آخر إلا بالوصول إلى المعلومة ودقتها ونشرها، وهو ما حرصت عليه الجزيرة وأكسبها مصداقية وجمهورا قد يحسدها أقرانها عليه.
المصدر : الجزيرة