على مدار عقدين، لم تكن الخرطوم متحفزة لشيء مثل قرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي أصدره الجمعة، الذي يأتي في الأسبوع الأخير من ولايته، ويقضي بتخفيف العقوبات التي أبقت اقتصاد الخرطوم هشا ومعزولا عن السوق العالمي.
والعلاقة متوترة بين واشنطن وحكومة الرئيس عمر البشير، منذ وصوله السلطة عبر انقلاب عسكري مدعوما من الإسلاميين عام 1989.
وبسبب تبنى نظام البشير خطابا معاديا للغرب، واحتضانه لزعماء جماعات إسلامية معارضة لبلدانه في المنطقة العربية، من بينهم زعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن، أدرجت واشنطن السودان على قائمة “الدول الراعية للإرهاب” في 1993، وقالت إن السبب هو ما وصفته بـ”مخاوف تتعلق بالإرهاب”.
ورغم سعي حكومة البشير لاحقا لتحسين علاقتها مع الإدارة الأمريكية، بتخفيفها لحدة خطابها الأيديولوجي وطرد إسلاميين من بينهم “بن لادن” في 1996، إلا أن واشنطن صعدت من خطواتها تجاه السودان بفرض عقوبات اقتصادية عليه في 1997.
ومضت واشنطن في تضييقها على السودان، حيث قصف سلاح الجو الأمريكي في 1998 مصنع للأدوية بالخرطوم مملوك لرجل أعمال سوداني بحجة أنه “مصنع للأسلحة الكيميائية”.
وتلا ذلك خفض التمثيل الدبلوماسي في كل من السفارتين إلى درجة قائم بالأعمال، لكن دون أن يمنع الخرطوم من إبرام اتفاق تعاون مع واشنطن لمكافحة الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
ولاحقا برر مدير المخابرات السودانية السابق صلاح قوش، الاتفاق بأنه منح بلاده حماية من تلقي ضربة عسكرية على غرار الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق.
وسمحت حكومة البشير أيضا للولايات المتحدة بالتوسط بينها ومتمردي الحركة الشعبية، الذين يحاربونها في جنوب البلاد، رغم اتهامها لواشنطن بدعمهم.
وبالفعل نجحت واشنطن في دفع الطرفين لتوقيع اتفاق سلام في 2005، مهد لانفصال الجنوب في 2011 عبر استفتاء شعبي صوّت فيه أكثر من 98% من الجنوبيين لصالح الانفصال.
ووعدت واشنطن الخرطوم بشطب اسمها من قائمة “الدول الراعية للإرهاب” ورفع العقوبات وتطبيع العلاقات بين البلدين، في حال التزامها بإجراء الاستفتاء وعدم عرقلة انفصال الجنوب.
لكن هذا لم يحدث رغم أن السودان كان أول دولة تعترف بالجارة الوليدة، وشارك البشير في حفل إعلانها بعاصمتها جوبا.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وضعت واشنطن شروطا جديدة أبرزها وقف الحرب في مناطق أخرى هي جنوب كردفان والنيل الأزرق (إقليمين متاخمتين لجنوب السودان) وإقليم دارفور (غرب) وتحسين سجل حقوق الإنسان وحل أزمة الحكم.
ورفضت الخرطوم هذه الشروط، ورأت أنها “تدخلا في الشؤون الداخلية” وهددت في سبتمبر/ أيلول 2013 بعدم التعامل مع المبعوث الجديد للرئيس الأمريكي إلى السودان وجنوب السودان دونالد بووث، ما لم يكن مهتما فقط بتطبيع العلاقات بين البلدين.
وفي خطوة تصعيدية رفضت الخرطوم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 منح بووث تأشيرة دخول للمرة الثانية بعد أن منحتها له في زيارته الأولى، عقب تعيينه حيث عزف كبار المسؤوليين وقتها عن مقابلته خلافا للمبعوثين السابقين.
وكان وكيل وزارة الخارجية السودانية وقتها “رحمة الله عثمان”، هو أرفع مسؤول يجتمع به المبعوث الأمريكي في زيارته الأولى.
وتلا ذلك تهديد الخرطوم في يوليو/ تموز 2014 بـ”مراجعة” اتفاق التعاون في مكافحة الإرهاب مع واشنطن، والذي لم تكشف تفاصيله قط.
وبررت وكالة الأنباء السودانية الرسمية نقلا عن مصدر حكومي، لم تسمه، هذا الأمر، بأن “العلاقات الثنائية التي ينبغي أن تشكل الإطار السياسي العام لهذا التعاون لا تتناسب مع الروح التي ظل السودان يبديها”.
وفي أغسطس/ آب 2015 تحلت الحكومة السودانية بمرونة وهي تستقبل المبعوث الأمريكي، بعدما أيدت إدارته عملية الحوار الوطني التي بادر بها الرئيس البشير.
وكان الاتحاد الإفريقي قد تبنى المبادرة وفوض رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو أمبيكي، لإنجاحها حيث قاطعتها فصائل المعارضة الرئيسية بعدما رفض البشير شروطها، والتي كان على رأسها الإفراج عن المعتقلين وإلغاء القوانين المقيدة للحريات.
وبالفعل انخرط دونالد بووث في سلسلة مشاورات مع الحكومة وخصومها، أثمرت بتوقيع المعارضة في أغسطس الماضي على خارطة طريق طرحها الوسيط الإفريقي بعد أشهر من رفضها.
وكانت الحكومة قد وقعت بشكل منفرد على الخارطة في مارس/ آذار الماضي في خطوة امتدحتها واشنطن بمعية العواصم الغربية.
وتنص الخارطة على عقد مفاوضات بين الحكومة والحركات المسلحة لوقف العدائيات وتمرير الإغاثة للمتضررين، ومن ثم الاتفاق على أجندة لحوار أشمل يضم أحزاب المعارضة لمناقشة القضايا القومية وعلى رأسها أزمة الحكم وإصلاح الاقتصاد.
وحضر المبعوث الأمريكي المحادثات التي استضافتها أديس ابابا في أغسطس الماضي، وتم تعليقها لأجل غير مسمى، بعد فشل الخصمين في التوصل لاتفاق.
وبعدها زار بوث الخرطوم أكثر من مرة، وبحث مع مسؤولين كبار استئناف عملية السلام، لكن لم يحدد بعد موعدا للجولة الجديدة.
وفي خطوة نادرة، نظمت الخارجية الأمريكية في سبتمبر/ أيلول الماضي مؤتمرا لمناقشة العقوبات التي تفرضها على الخرطوم بمشاركة مسؤوليين سودانيين بينهم محافظ البنك المركزي.
واستهدف المؤتمر تعريف الشركات والبنوك العالمية بالمعاملات المالية والتجارية غير المحظورة بموجب العقوبات الأمريكية.
وسبق المؤتمر تخفيف إدارة أوباما للعقوبات حيث سمحت في فبراير/ شباط 2015 للشركات الأمريكية بتصدير الأجهزة الإلكترونية الشخصية مثل الهواتف الذكية وتطبيقاتها إلى السودان.
وأرجعت واشنطن قرارها إلى “الترويج لحرية التعبير ومساعدة السودانيين على التواصل مع العالم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والانترنت”.
وجاء القرار الأمريكي بعد أيام من زيارة نادرة لوزير الخارجية إبراهيم غندور، إلى واشنطن بدعوة من الكونغرس، وكان يشغل وقتها منصب مساعد الرئيس السوداني.
ووفقا لوسائل إعلام غربية، فإن واحدا من الأسباب الرئيسية للخطوات التصالحية المتبادلة بين البلدين، هو قطع السودان رسميا لعلاقته مع إيران مطلع العام الماضي.
وعلى مدار عقدين كانت طهران واحدة من أوثق الحلفاء الإقليمين للخرطوم، ما تسبب في تراجع علاقتها مع الدول الخليجية قبل أن تتحسن بعد القطيعة مع الجمهورية الإسلامية.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2015، قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، إن الدول الخليجية بإمكانها التوسط بين بلاده وحكومة البشير.
وقبل أشهر أفادت وسائل إعلام إسرائيلية، أن تل أبيب تضغط على إدارة أوباما لرفع العقوبات عن السودان كحافز على قطع علاقته مع إيران.
ومنذ العام 2009 قصف سلاح الجو الإسرائيلي أكثر من مرة أهداف على الأراضي السودانية بحجة “تهريب حكومة الخرطوم أسلحة إيرانية إلى حركة حماس في غزة” مرورا بصحراء سيناء المصرية.
وكان أضخم اعتداء عندما قصف سلاح الجو الإسرائيلي مصنع حربي بالخرطوم في 2012، لكن تل أبيب لم تعلق حتى الآن على اتهام السودان لها بتنفيذ الهجوم.
وبهذه المعطيات أصدر الرئيس الأمريكي باراك أوباما اليوم الجمعة، قرارا ببدء تخفيف العقوبات على السودان بعد 180 يوما من الآن، ورحبت الخرطوم بالقرار، وقالت إنه “يلغي” العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان منذ 20 عاما، لكن القرار أبقى على حظر تصدير الأسلحة الأمريكية.
وقالت الخارجية السودانية إن القرار “يمثل نتاجا طبيعيا لجهود مشتركة وحوار طويل وصريح وثمرة لتعاون وثيق بين البلدين في قضايا دولية وإقليمية محل اهتمام مشترك”.
وفيما لم تشمل قرارات أوباما شطب السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب وهي خطوة تتطلب موافقة الكونغرس، أشارت الخارجية السودانية إلى “تصميم” حكومتها علي مواصلة التعاون والحوار مع واشنطن لتحقيق ذلك.
وطن إف إم/ اسطنبول