في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، أي بعد قرابة ثمانية أشهر على انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا؛ شاء بشار الأسد أن يؤدي صلاة عيد الأضحى في مدينة الرقة، شمال شرق البلاد، التي لم يُعرف للبيت الأسدي أيّ اهتمام بها (أسوة بمثيلاتها مدن «الجزيرة» السورية: دير الزور، الحسكة، القامشلي).
قيل، يومئذ، إنّ الأسد اختار هذه المدينة لأنها تأخرت في الالتحاق بموجة الاحتجاجات الشعبية، أو لأنّ تركيبتها العشائرية أكثر قابلية للاختراق والتدجين، أو لأنّ الخطوة قد تمثّل «رشوة» متأخرة للمنطقة الشمالية ـ الشرقية عموماً. ولقد توفرت أيضاً (في الصحافة الغربية هذه المرّة، ذاتها التي احتفلت بعقيلة الأسد، أسماء الأخرس، بوصفها «وردة الصحراء»!)، مخيّلة استشراقية، ضحلة وفضفاضة وبلهاء في آن معاً، ارتأت أنّ الأسد إنما يحاول جَسْر هوّة جديدة مع المنطقة، بعد أن صاهر سنّة مدينة حمص، واقتفى أثره شقيقه ماهر الذي صاهر مدينة دير الزور!
في آذار (مارس) 2013، باتت الرقة أولى المدن السورية التي تخرج من قبضة النظام؛ لا لشيء إلا لتقع في قبضة خلائط الجهاديين الإسلاميين، «جبهة النصرة» و»أحرار الشام» و»داعش»، فينسحب منها هؤلاء تباعاً، وتُترك الهيمنة فيها لتنظيم البغدادي، الذي لن تطول به الحال قبل أن يعلن «دولة الخلافة» العتيدة. ولعلّ المدينة، الشهيدة والشاهدة منذ أربع سنوات، لن تفلح في محو سلسلة التواريخ الشائنة، ولكن الدامية الهمجية أيضاً، التي عاشتها تحت «حكم» الجهاديين؛ وهيهات أن ينسى نشطاؤها، والكثيرون منهم يرزحون اليوم في أغلال «داعش»، أنّ الزخم الثوري الذي أطلقته صلاة العيد الأسدية، والتي شكّلت للمدينة ولأهلها إهانة وطنية وأخلاقية فاضحة، وُئد سريعاً بأيدي أولئك الذين زعموا «معارضة» نظام الأسد.
كذلك تقتضي حقوق الذاكرة، وحقّ مدينة الرقة الثائرة أولاً، أن يسترجع المرء بعض «أفكار» الأسد في تلك الفترة؛ لغرض المقارنة مع مشهد الرقة الراهن، الذي يشير إلى نقيض مزاعم رأس النظام، تماماً وعلى نحو مطلق. ففي حوار مع أندرو غليغان، الصحافي البريطاني الذي يُعدّ بين الأشدّ عداء للعرب وانحيازاً لإسرائيل، شاء الأسد التركيز على الاعتبارات التالية: 1): التحذير، المبطّن بالوعيد، من مغبّة التدخل العسكري في سوريا، حيث لن يعيد الغرب إنتاج أفغانستان جديدة واحدة، بل «عشرات الأفغانستانات»؛ و2) التذكير بأنّ نظامه يقاتل «القاعدة»، وبالتالي من مصلحة الغرب أن يقف على الحياد؛ و3): التدخّل في شؤون النظام «سوف يحرق المنطقة بأسرها»، وإذا كانت «الخطة تسعى إلى تقسيم سوريا، فإنّ هذا يعني تقسيم المنطقة بأسرها»؛ و4): البلدان الغربية سوف تصعّد الضغوطات على النظام، «بالتأكيد»، كما شدد الأسد، قبل أن يردّ بهجوم معاكس يذكّر بحديثه الشهير مع صحيفة «وول ستريت جورنال» قبيل الانتفاضة: لكنّ سوريا مختلفة، في كلّ اعتبار، عن مصر وتونس واليمن. التاريخ مختلف. والسياسة مختلفة».
فماذا يقول مشهد ما يُسمّى بـ»معركة الرقة» اليوم، سوى تدخّل أمريكا (والتحالف الدولي، إجمالاً)، وروسيا، وإيران، و»حزب الله» والميليشيات من مختلف منابع التشيّع المذهبي والسياسي والعسكري؟
وأيّ حياد، للغرب، كان الأسد يحلم به، بعد كلّ هذه الأنساق من التورّط اللاحيادي؟ وماذا عن وعيد الأسد باحتراق المنطقة، ألا يصيب نظامه أو ما تبقى له من سوريا الراهنة، أولاً؟ وهذا السباق الجنوني في التسليح، بين واشنطن وموسكو وطهران وأنقرة، للكرد والعرب والميليشيات والعصائب، كيف يُبقي سوريا «مختلفة»… حقاً؟ وكم من مصاهرة شائنة مع الأبالسة سوف يعقد الأسد، في الرقة ودير الزور، وفي درعا وتدمر، وحيثما يتوجب أن يندلع اللهيب؟ وكم من شبح تقسيم سوف يُطلق في ربوع سوريا، «المفيدة» منها والمخصصة للخراب والدمار؟
.. في حضور «داعش» كما في غيابها، بالطبع؛ فالأمر عنده سيان!
المصدر : القدس العربي