رغم أن الحراك الدبلوماسي يشهد مفاوضات ومشاورات على مساريْ كل من أستانة وجنيف لإيجاد حل سياسي للكارثة السورية؛ فإن الوقائع على الأرض تشير إلى أن النظام السوري مستمر في اتباع سياسة التهجير القسري بالعديد من المناطق السورية، وذلك بإسناد ودعم حليفيه الروسي والإيراني، الأمر الذي يكشف زيف توجهه نحو الحل السياسي.
وجاء اتفاق التهجير القسري في حي الوعر الحمصي كي يعلن دخول الروس بقوة على خط استكمال نهج التغيير الديمغرافي، الذي يستهدف كل من لا يعتبره النظام السوري جزءا من “سوريا المفيدة”، وذلك برعاية الروس وضمانتهم هذه المرة أيضاً.
التهجير أو التسوية
غير أن اتفاق التهجير القسري في حي الوعر يثير أسئلة وتساؤلات عن أوجه التشابه والاختلاف بينه وبين اتفاقات التهجير القسري الأخرى، التي نُفذت في كل من حمص القديمة وقدسيا وداريا ومعضمية الشام وحلب الشرقية، وعما إذا كانت رعاية روسيا ووجود شرطتها العسكرية سيشكل ضمانة لأمن من يبقى من السكان الذين يختارون البقاء في حيهم، ويمنع تهجيرهم مستقبلاً كما حصل في قدسيا والهامة ومناطق وادي بردى.
يهدف الاتفاق الذي وُقع بين لجنة أهالي حي الوعر والطرف الروسي والنظام إلى تهجير أهالي الحي، الذين يرفضون إجراء تسوية مع نظام بشار الأسدمقابل فك الحصار المفروض عليه، ويتضمن عدة بنود ستنفذ على مراحل زمنية تمتد حتى ستة أشهر، تبدأ بالتهجير وتنتهي بدخول قوات الأسد إلى حي الوعر.
ويقضي الاتفاق بـ”خروج أول دفعة من المقاتلين بعد مرور أسبوع من توقيع هذا الاتفاق، نحو مناطق ريف حمص الشمالي أو إدلب، أو نحو جرابلس بريف حلب الشمالي، حيث سيتم تنسيق خروج المقاتلين عن طريق “الهيئة المدنية” التي ستشكل لجنة لتحديد أسماء الخارجين، ثم فتح المعابر وإدخال الموظفين الحكوميين لإدارة مؤسسات الدولة بعد خروج أول دفعة من الأهالي.
ومن غير المتوقع أن يتم تنفيذ الاتفاق كما نُصّ عليه، ولعل ما حدث في قدسيا والتل وحلب الشرقية -بعد اتفاقيات التهجير السابقة- يقدم أكثر من دليل على عدم احترام كلٍّ من النظام وشبيحه ونظام الملالي الإيراني ومليشياته كلَّ الاتفاقات والتفاهمات.
حيث قامت قوات النظام وأجهزته الأمنية والمليشيات الإيرانية المتحالفة معه التي دخلت تلك المناطق -فور خروج المقاتلين- بشن حملات اعتقال وتجنيد واسعة في صوف المدنيين، وفرضت سيطرتها عليها مما أدى إلى عمليات تهجير لاحقة، خوفاً من انتقام أجهزة النظام ومليشيات نظام الملالي.
وتعكس الرعاية الروسية لهذا الاتفاق وإبعاد إيران عنه موازينَ القوى على الأرض السورية، التي باتت تميل بشكل كبير لصالح المحتل الروسي.
أما الإبقاء على 300 عنصر من مقاتلي الجيش الحر في الحي لحماية سكانه الباقين فيه، فالمراد منه تسويق وتلطيف الاتفاق على الطريقة الروسية، إذ لن يكون بمقدور هؤلاء المقاتلين الباقين حماية الحي أصلًا.
ويبدو أن الأهمية الإستراتيجية لحي الوعر الحمصي جلعت الطرف الروسي يصرّ على عقد اتفاق التهجير، حيث وضع الطرف الروسي المسدس على جبين المفاوضين من الأهالي والمقاتلين، وخيّرهم بين الخروج أو التسوية أو القتل وإبادة الحي في حال رفض الاتفاق.
وما كان من الأهالي والمقاتلين سوى التوقيع عليه، لأن التسوية تعني العودة تحت نير نظام الأسد، أي أن يبقى من يسوي وضعه عرضة للاعتقال أو التجنيد ضمن مليشيات النظام والقتال دفاعاً عنه، في حين يمثل الخروج أو بالأحرى “التهجير القسري” أهون الشرين بالنسبة لهم.
أوجه التشابه
يشير واقع الحال إلى أن أوجه التشابه كثيرة بين ما حصل في حي الوعر وما حدث في باقي المناطق التي شهدت اتفاقات مماثلة، حيث اتبع نظام الأسد وحلفاؤه إستراتيجية الجُزُر المعزولة في حمص وريفها، فقام بقصفها وحاصرها واستفرد بكل منطقة على حدة.
ولا شك في أن اتفاق التهجير القسري من حي الوعر الحمصي يأتي استكمالاً لما شهدته المدينة من تبعات نهج التغيير الديمغرافي بسوريا، حيث تعرضت أحياء حمص القديمة -منذ بدايات الثورة السورية- لقصف وحشي من قوات النظام ومليشيا حزب الله، أدى إلى تدميرها ودفع معظم أهلها للجوء والنزوح.
فُرض حصار على المدينة دام أكثر من عامين، وانتهى بعقد اتفاق بين النظام ومعارضيه برعاية أممية وحضور إيراني في 4 أبريل/نيسان 2014، قضى بإخراج المقاتلين والمدنيين منها وتهجيرهم إلى ريفها الشمالي ومحافظة إدلب.
وأدى ذلك إلى تفريغ المدينة القديمة من معارضي النظام وتوطين موالين بدلاً عنهم فيها، حيث انخفض عدد سكان مدينة حمص من مليون ونصف نسمة -قبل بداية الثورة السورية- إلى قرابة 400 ألف نسمة حالياً، مما يعني أنه تم تهجير قرابة 65% من سكان المدينة الأصليين.
أما اتفاق داريا فقد جاء بعد أربع سنوات من الحصار والجوع والقصف، حيث أجبِر من بقي من سكان داريا على التفاوض مع النظام في أغسطس/آب 2016، والقبول بالتهجير القسري الذي فرضه عليهم أو إبادتهم، لتتحول المدينة -التي كانت تضم 250 ألف نسمة قبل الثورة- إلى مدينة فارغة من سكانها.
والأمر نفسه حصل في معضمية الشام التي أجبِرت على اتفاق تهجير قسري في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2016، بعد سنوات من الحصار القاسي والتجويع، وعمليات القصف المستمر، وهُجّر مئات المقاتلين مع عائلاتهم نحو إدلب شمالي سوريا.
وحصل الأمر نفسه من قبل في الزبداني التي كانت من بين أكثر المناطق المستهدفة بالتهجير والتغيير السكاني، حيث قامت مليشيات حزب الله اللبناني والمليشيات الإيرانية بعمليات تهجير قسري لسكانها، ضمن مسلسل تهجير ممنهج نفذه حزب الله في كل مناطق سهل الزبداني بتسهيل من قوات النظام.
ولعل ما شهدته حلب الشرقية مؤخراً قدّم مثالاً صارخاً لعمليات التهجير القسري التي كان الروس أبطالها، بعد أن قادوا حرباً وحشية ضد سكانها وبناها التحتية وأحجارها، ثم رعوا اتفاق تهجير قسري -في ديسمبر/كانون الأول 2016- أدى إلى تهجير أغلب سكانها.
ولم يمنع انتشار الشرطة العسكرية الروسية في حلب الشرقية وضمانها ضبط سلوك قوات النظام والمليشيات المذهبية الإيرانية، من تنفيذ حملات إعدام ميدانية فور بسط سيطرتها على أحيائها؛ حيث أفادت تقارير موثقة إقدامها على إعدام الكادر الطبي لمشفى الحياة في حي الكلاسة بعد اقتحامه.
وأعدمت كذلك 34 شخصاً وأحرقت حتى الموت تسعة أطفال في حي الفردوس، كما نفذت إعدامات ميدانية في أحياء الكلاسة والفردوس والصالحين ووبستان القصر، الأمر الذي دفع من آثر البقاء في حلب الشرقية إلى الفرار خوفاً من الانتقام والتنكيل.
الشراكة القذرة
يؤكد اتفاق التهجير القسري في حي الوعر مشاركة نظام بوتين ليس فقط في الحرب القذرة التي تُشن على غالبية السوريين منذ عدة سنوات، وإنما أيضا مشاركته القذرة في عملية التهجير القسري التي شملت مناطق عديدة في دمشق وريفها وحمص وحلب.
وليس الروس -كما يصورون أنفسهم- رعاةَ سلام تدخلوا في الحرب السورية كي يرعوا “المصالحات الوطنية”، ويعقدوا “الهدن” ويثبتوا “اتفاق إطلاق النار”، ويطلقوا الحوار السياسي في المحافل الدبلوماسية.
في حين أنهم جاؤوا -في حقيقة الأمر- كي يضمنوا مصالح نظامهم البوتيني، عبر تحويل سوريا إلى منطقة نفوذ كبرى ودائمة لهم في منطقة الشرق الأوسط، وكي يشرفوا على تهجير سكان من الغالبية السورية التي باتت في نظر نظام بوتين مجرد غرباء يجب تشريدهم وإبعادهم عن وطنهم المحتل.
إذن؛ كيف يمكن للروس أن يكونوا طرفاً ضامناً لاتفاق حي الوعر وبشكل لا يتحول معه إلى اتفاق تهجير قسري لجميع سكان الحي؟ لا أحد يضمن ذلك.
فهناك أولاً تناقضات الحسابات بين الروس والإيرانيين والنظام، وهناك أهمية مدينة حمص لكل طرف وحي الوعر بشكل خاص المجاور لكليات وقواعد عسكرية عديدة، وهناك مصفاة حمص للبترول ذات الأهمية الإستراتيجية، الأمر الذي لا يسمح لأي طرف بأن يكون ضامناً إلا في حدود معينة.
وبالتالي لن يجدي نفعاً نشرُ كتيبة روسية مكوّنة من 60-100 عنصر لتراقب مراحل الاتفاق بدقة، وتضمن التزام الأطراف به وتعالج الخروقات، وتشرف على عودة الأهالي والمهجرين إلى الحي. فقد نشر الروس كتيبة مماثلة في أحياء حلب الشرقية، لكنها لم تقم بمهمة منع عمليات القتل والانتقام والتهجير القسري لمن بقي من أهلها بعد خروج مقاتلي المعارضة.
وبعد إتمام عملية التهجير القسري في حي الوعر، ربما سيأتي الأسد إلى الحي الخاوي على عروشه والمفرّغ من أهله وأبنائه، كي يهذي بكلام مشابه لما قاله في داريا بعد تهجير سكانها، ويتحدث مرة أخرى عن أن “التغيير الديمغرافي يتغير عبر الأجيال بسبب مصالح الناس الاقتصادية والحالة الاجتماعية والظروف السياسية”.
إلا أن الأسد لن يقوى على الحديث عن الأم التي هجرها أبناؤها، أو عن الأسرة التي أجبرت على ترك منزلها، والطفل الذي ابتعد عن حيه ومدرسته، ولا عن أن الروس باتوا محتلين بعدما شاركوه -إلى جانب الإيرانيين- في تدمير الحي.
لكن ذلك كله لن يشكّل الفصل الأخير من حكاية أبناء “عاصمة الثورة” وأحيائها وحواريها، فأناشيدهم ما زلت حيّة، وصدى ما صدحت به حناجرهم تردده الحجارة والشوارع، وتحمله نسائم الهواء.
المصدر : الجزيرة نت