ست سنوات وأكثر، ولم تزل الثورة السورية وطرق نظام الأسد في القضاء عليها تفرز الجديد من التحديات وأشكال المعاناة المختلفة التي يعيشها السوريون على امتداد جغرافيا بلدهم، أو في شتاتهم الموزّع في العالم.
لم يكن السوريون أول من ذاق ويلات الحروب المتنوعة، ولن يكونوا آخر من سيذوقها، لكن شعباً آخر لم تتكثف معاناته وتطول مثلهم. حيث أعادت مأساتهم إلى الأذهان كل ما وقع من ظلمٍ على البشرية، لتعطي أمثلة جديدة عن زيف التطور الإنساني، وبطلان ادعاءات الحضارة في كل ما أنتجته من قوانين ومؤسسات ناظمة لحياة البشر.
اليوم، تأتي إلى بالك رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”، والتي صدرت قبل 48 عاما، خصوصا تلك المشاهد فيها عن تفريغ اليهود مناطق كاملة من الفلسطينيين، سكانها الأصليين، ليعاد تسليم البيوت بما فيها لسكانٍ جدد ينتمون، بشكل أو بآخر، للجهة التي اقتلعت أصحاب البيوت أو قتلتهم.
وعلى الرغم من أننا قد نتعاطف مع هؤلاء الجدد لحظات، كون بعضهم لم يدخل الصراع مباشرة، وليس له معرفة كاملة بأنه لا يختلف عمّن هجَّر أو حمل السلاح أو أطلق النار، إلا أن تلك المشاهد من الرواية تركت في قرّائها صدعاً عميقاً قد يكون الأقسى فيما حملته. واليوم، بعد خمسين سنة، يكرّر التاريخ المشهد ليحل سكان الزبداني ومضايا والقصير محل الفلسطينيين المهجّرين من بيوتهم، ولينافس الأسد، وداعمه الإيراني، المحتل الإسرائيلي في عنفه وإجرامه، ويفوزان عليه. فبعد تعثّر متكرّر، يدخل “اتفاق المدن الأربع” حيّز التنفيذ، بتفاصيل يكتنفها الغموض وعدم الشفافية من كل الجهات أطراف المفاوضات أو حتى الداعمين أو الضامنين له.
وعلى الرغم من عدم خروج “اتفاق المدن الأربع” عن سياق استراتيجية النظام الممنهجة في تطبيق سياسة التهجير القسري، والتي سبق وغيّرت خريطة السيطرة في عدة مناطق في سورية، إلا أن هذا الاتفاق يحمل، بين جنباته، مخاطر مضاعفة عمّا حمله كل ما سبقه.
فبالإضافة إلى الخطر الرئيسي المشترك بين جميع حالات التهجير القسري السابقة، والذي يشكّل الهدفَ الأساسي منها، وهو التغيير الديمغرافي لمناطق بعينها لتحقيق “سورية المفيدة” بشكل ما، حطّم “اتفاق المدن الأربع” بقايا ثقة السوريين، المهشّمة أصلاً، بالفصائل التي كانت طرفا فيه، خصوصا جيش الفتح، كما بعثرت أوهام كثيرين في الداخل السوري عن دول تعلن دعم الشعب السوري وثورته، ولكنها كانت طرفا فاعلا في اتفاقٍ يصبّ في مصلحة نظام الأسد، حيث سينهي تماما كل شكل لوجود المعارضة المسلحة في إطار العاصمة دمشق، باستثناء الغوطة الشرقية التي يبدو أن النظام سيبدأ خطوته التالية باتجاهها، بعد أن خرجت قيادات الفصائل فيها منذ فترة ليست قصيرة من دائرة المعارك الموجهة ضده، وأصبحت بحد ذاتها عبئا على الثورة والأهالي.
ولعل الأخطر من كل سبق أن النظام، بتخلّصه من همّ كفريا والفوعة، وتجميعه المقاتلين المهجًّرين من بقية المحافظات في إدلب، سيتفرّغ خلال وقت قصير لمهاجمة “معقل الإرهابيين” الأكبر (إدلب) بكل ما لديه من قوة، وبتجاهل تام من كل الدول، كونه سيقدّم أسباباً واضحة ومتفقاً عليها من الجميع، تتمثل في مكافحة “الإرهابيين” وتنظيف سورية والعالم من خطرهم، خصوصا بوجودهم اليوم في المنطقة نفسها التي تتمركز فيها جبهة النصرة وفصائل عديدة متهمة بالتكفيرية والتطرّف.
لم تلق استراتيجية نظام الأسد هذه ومخططاته المفضوحة منذ سنوات استنكارا أو تحركا دوليا فاعلا لوقفها، بل إنها تمت وستتم تحت نظر العالم أجمع، وهو ما يهدّد بكارثة حقيقية جديدة، ستطاول مدينة إدلب بكل من فيها، وقد تكون الأسوأ في تاريخ الثورة السورية.
المصدر : العربي الجديد