عندما يبدأ هجوم النظام على ادلب، فإن نقاط المراقبة التركية الـ12 ستكتفي بالمراقبة، أي أنها بلا قيمة تذكر، وهكذا سيكون حال كل تقديرات المعارضة التي اعتمدت وتأملت دورا تركيا يمنع النظام من استعادة ادلب، فكما في معركة الغوطة وبعدها درعا، يتم التعويل على قوى داعمة للثورة، بدلا من الاعتماد على قوى الثورة نفسها! مشفوعة بعبارات أصبحت من متلازمات خطاب المعارضة، تتكرر وتملأ الإعلام ضحيجا، مثل «التوازنات الدولية» و»التفاهمات العالمية»، بدون استيعاب أن الحرب في سوريا تحسم منذ سنوات بالقوة العسكرية، وأن العامل الأول في هذا النزاع الأهلي، هو قوة الأطراف المحلية المقاتلة وداعميهم المستعدين للقتال، وليس أي قوة دولية.
فلا يمكن لأي قوة دولية مهما بلغت قوتها تغيير واقع بدون الاعتماد على حلفاء محليين وازنين، وضمن ظروف محلية مهيئة، لذلك لم تتمكن الولايات المتحدة من دعم فصائل معارضة أكثرية لكنها مفككة، بينما نجحت إيران بدعم نظام أقلوي لكنه متماسك.
والأكثر من ذلك، أنه حتى الأكراد الذين واصلت الولايات المتحدة دعمهم شمال سوريا، ستضطر لتركهم أمام النظام بعد انسحابها العام المقبل، لأن القوة الاقليمية للنظام وايران وروسيا، لم تعد تسمح بمجال لمنافس آخر داخل سوريا وإن كان قوة عظمى كالولايات المتحدة، بمعنى أن الذين اعتمدوا على الامريكان و»القوى الدولية» بدون توافر دعائم وارتكازات ذاتية متينة، لم يكن فهمهم لطبيعة النزاع صحيحا.
وبعد اتضاح التوازنات داخل سوريا، فإن مصير أدلب، لن يختلف عن الغوطة ودرعا والرقة ودير الزور، وإن تمكن الجهاديون من إطالة المعركة وإلحاق خسائر كبيرة بالنظام، وحتى لو أنجزت تسوية معينة بانسحاب الفصائل ونزع سلاحها، فإن الطرف الضامن وهو غالبا تركيا، سيضع نفسه في موقف محرج، إذ أنه سيعود لتسليم أدلب للنظام بعد إخلائها من المسلحين، لذلك فإن تركيا في ورطة في أدلب، فإن هاجم النظام سيكون موقف أنقرة ونقاطها المراقبة محرجا، وإن منحت تركيا فرصة للتسوية ونزع السلاح، ودخول أدلب، فانها ستتحول إلى مجرد عراب لتسليم مناطق المعارضة للنظام بعد استلامها من المعارضة. منذ أن زجت تركيا بقواتها داخل الأراضي السورية، لم تنفذ قواتها أو الفصائل الموالية لها في سوريا، أي عملية واحدة ضد النظام السوري، بل إن وزير الخارجية التركي ومسؤولين اتراكا صرحوا مرتين، بأنهم يرحبون بسيطرة الجيش السوري الحكومي على أراضيه، لذلك فإن أهداف تركيا في سوريا انحصرت منذ سنوات، بمحاولة التصدي للنفوذ الكردي، أما النظام السوري فقد أصبح أهون الشرين بالنسبة لتركيا، وهنا افترقت أولويات أنقرة عن أولويات المعارضة السورية، وحتى أولويات تركيا نفسها في مواجهة الأكراد، تم استغلالها من قبل الأمريكيين في الحرب على تنظيم «الدولة»، لتدخل تركيا مناطق درع الفرات، بدون محاربة الاكراد انفسهم، وبدون القدرة حتى الان على دخول أبرز وأكبر المدن هناك، وهي منبج وتل رفعت، ورغم كثرة الحديث الإعلامي عن اتفاق مع الأمريكيين بدخولهما، كان من الواضح منذ البداية انه سيبقى مجرد حديث إعلامي يمنح أنقرة مجرد تطمينات شكلية ودوريات روتينية لقواتها خارج منبج، بدون أي تغيير للقوة المسيطرة في منبج وهي المجلس العسكري الموالي لقسد.
أما في عفرين، فقد حققت تركيا هدفا ضمن أولوياتها المباشرة، وهو ضرب الكانتون الكردي هناك، وهذا الهجوم توافق مع أهداف روسيا بضرب الكيان الكردي المقرب من منافسيهم الأمريكيين شمالا، والأهم أنه توافق مع رغبة ملحة لدى الايرانيين والنظام بمنع تشكيل إقليم كردي خارج عن سيطرتهم شمال سوريا، حتى لا تتكرر مواجهة كركوك مع الإقليم الكردي في شمال العراق، وتبدو المباحثات الجارية بين النظام والإدارة الذاتية الكردية، في طريقها لعودة النظام لمعظم مفاصل المناطق التي سيطر عليها الاكراد شمال سوريا، ومنها الرقة وحقول النفط في دير الزور، خصوصا أن الاكراد سيجدون انفسهم بلا غطاء أو حماية امريكية في نهاية هذا العام، أو بداية العام المقبل بعد تنفيذ الامريكيين لانسحابهم المتوقع من شمال سوريا. لكن قد تكتمل الورطة التركية، عندما تكتشف أن باقي المناطق الكردية والمعابر الحدودية المحاذية لحدود تركيا، ستعود لسلطة النظام بدون رصاصة واحدة، وأنه كان من الممكن أن تعود عفرين لسلطة الأسد، بدون خسارة جندي تركي واحد في تلك الحرب، التي لا داعي استراتيجي لها سوى الإسراع في اعادة تشكيل الخريطة السورية شمالا تحت هيمنة الأسد، فدرع الفرات وعفرين، دخلتهما تركيا من خلال استانة، وفي ضوء استمرار المعطيات الحالية، ستنسحب منهما تركيا ايضا من خلال اتفاق استانة، بعد إكمال النظام سيطرته على مناطق المعارضة المتوقع بحلول العام المقبل.
وهكذا، تبدو تركيا مكبلة تماما في سوريا، بقيود روسية وأمريكية، لا تستطيع الإفلات منها، إلا لتحقيق هدف لاحد هذين الطرفين، ولعل هذا يرجع لعدم قدرة انقرة على نسج تحالفات متينة داخل سوريا، وعدم رغبتها في ذلك اصلا، إضافة إلى تفكك وضعف الفصائل والقوى السنية المعارضة المرشحة للتحالف مع تركيا، وإن كانت تمثل أغلبية السكان، بينما تمكنت الدولة الاقليمية المناظرة لتركيا اقليميا، ايران، من ايجاد روابط ووشائج متينة مع اقلية دعمتها في الحفاظ على السلطة بالدم والقمع، رغم انها لا تتجاوز نسبتها الـ10% من السكان، بل انها فعلت ايضا ما خشيت منه القوى المعارضة السنية، وهو الخطاب الاسلاموي الجهادي، فواصلت ايران التمسك بخطاب معاد اسلاموي للغرب، ودعمت النظام بكل الفصائل الإسلاموية الشيعية من طهران حتى بيروت حتى صنعاء، وفرضت أمرا واقعا دفع الولايات المتحدة وروسيا للتعامل معها كقوة اقليمية مهيمنة، رغم نظامها وخطابها الإسلاموي الفاقع، الذي ظلت المعارضة السورية تحرص على اخفائه، خشية من فقدان دعم الغرب لها، فإذا بالغرب يدعم إيران القوية، وإن اكتست برداء اسلاموي داكن السواد، وحتى اليوم لا تسأل بعض قوى المعارضة نفسها سؤالا بسيطا، وهو لماذا الحرص على تفريق وقياس أنفسهم بناء على درجة لونهم الإسلامي، والمماهاة مع رؤية قوى داعمة غربية، وكأنها هي القوة الاساسية التي تمارس الحرب في سوريا، بينما الفاعل العسكري الاساسي في سوريا الذي يهاجم ويدمر مناطق المعارضة هو النظام وحلفاؤه الايرانيين والروس، الذين لا يفرقون بين كل من يخرج عن سلطة الاسد إن كان شيخا داعشيا أو زعيما يساريا، أو علويا متمردا كصلاح جديد.
المصدر : القدس العربي