حلبمقالات

نصير شمة – أنا عراقي من حلب

كنت أرغب في الكتابة منذ فترة عن شيء خارج أسوار الألم اليومي الذي نحياه، عن الحياة التي نحلم بها نحن الذين وجدنا في هذا العالم كي نبني أحلامنا. لكن كيف وأنا الموجوع كل يوم بما يحدث من موت ودمار، أفكر بأحلامي وأحلام غيري التي منها البسيط جدا والتي أحيانا لا تتجاوز رغيف خبز للعيش!

اليوم، ليس كماضينا أبدا، إذ أن رغيف الخبز أصبح عند الكثيرين رفاهية كبيرة، فالأم الآن تفتح عينيها في الصباح، إن استطاعت النوم على رجاء بحفظ أطفالها. الوجع اليوم اسمه حلب، والتي تحترق اليوم اسمها حلب، والتي تموت جوعا وقهرا واستبدادا من كل النواحي اسمها حلب، واقف عند هذا فليس بوسعي أن أفتح صفحة ذكرياتي مع حلب الفن، وحلب القلعة، وحلب الأزقة القديمة التي تفوح بطعم التاريخ، حلب التراث والمطبخ الشهي، وحلب الجمال، حلب صباح فخري، وحلب صبري المدلل والشيخ حسن الحفار وعشرات الفنانين الكبار الذين قدموا لتاريخ الموسيقى طعما مغايرا، حلب القدود الحلبية، حلب الأرض التي زرتها ذات يوم في جولة موسيقية فتركت عندي أحاسيس عميقة متضاربة. عندما زرت حلب للمرة الأولى، شعرت بالغربة، فالمدينة العريقة لم تمنحني أسرارها ولم تكشف لي باطنها، بل تركتني غريبا وأنا أقلب في ذهني ما سمعته عنها وما قرأته في الكتب، وما وصل لي من موسيقاها من أحاسيس وصور، يومها شعرت بأن حلب التي في أحلامي ليست حلب التي رأيت، هنا حلب مزدحمة بالمارة وبالباعة الذين يصرخون معلنين عن بضائعهم، حلب التجارة والضوضاء. 

انتهى اليوم ونامت الشمس في مستقرها، وذهبت ابحث عن حلب «حلبي» عن جواهر المدينة ومبانيها وعماراتها القديمة، أزقتها الضيقة التي تؤدي إلى بيوت واسعة جدا بعضها يعتبر قصورا، والأهم من كل هذا روح حلب وثقافتها الشفاهية من الطرب الذي لا يشبه شيئا إلا نفسه. اصطحبني يومها بعض الأصدقاء إلى حلب القديمة، كانوا يدافعون عن حلب بتطرف كبير، وكانوا يتحدثون عن حلب كأنها بنيت ثم أغلق العالم أبوابه أمام بناء مدن أعظم وأجمل وأعرق، ما أن بدأت جولتنا حتى بدأ شعور الارتياح يعم في داخلي، شيء يشبه تخديرا عميقا للنفس، يشبه القدود الحلبية وما تخيلته عن حلب في أحلامي.

الحجر والخشب كانا عنصرين أساسيين وقاسمين مشتركين في كل مباني حلب القديمة، التي تكاد تكون قبل أن يدمر الأسد والجماعات المتطرفة المؤازرة له في قتل حلب، من أهم المدن التاريخية في الجغرافيا العربية، ما كنت أشم رائحة التاريخ فقط بل كنت فيه وفي أعماقه، في تلك الأزقة أنا المحمل بحضارات وسليل أعظم المدن في العالم، سليل أكد وسومر وبابل وآشور ونينوى وغيرها وغيرها، كنت أرى التاريخ والحضارة هناك أيضا في تلك الشوارع القديمة.

اليوم، لن أستطيع أن استعيد تلك الذكريات، وأنا أشاهد الصور وما آلت إليه حلب وابناؤها، شعرت بجدار كثيف أسود يغطي كل شيء، كأنه يريد أن يمحو حتى ذاكرة الأشياء لا الأشياء نفسها وحسب. كيف أستعيد الآن صباح فخري وأنا أسمع صرخات المئات من الأطفال والأمهات والعجائز، كيف أستعيد ذلك التاريخ وأنا أرى الدمار الذي خلفته القذائف والبراميل التي تدك البناء والإنسان والنبات من السماء والأرض، ولا أدري أيضا من أين، من المستفيد من تدمير واحدة من أعرق المدن في العالم. في التاسعة مساء جاء الشيخ حسن الحفار لأحد المنازل الحلبية القديمة للمشاركة في جلسة أصدقاء أقيمت على شرفي، والشيخ حسن الحفار منشد عظيم، بل أهم المنشدين في هذا العصر، يومها بدأت أتابع طقوسا جميلة وغريبة، طقوسا تبدأ «بالتسخين» لمدة ساعة على الأقل قبل أن يطلق الشيخ الحفار صوته منشدا فيعم صمت عميق ولا نرى في تلك الجلسة سوى الرؤوس تتمايل كأنما تنفض عنها كل آثار المدينة الجديدة، مستعيدة حلب عمق التاريخ وعمق الفن الأصيل الذي لا يكتفي بالخارج، بل يتحرك في أعماق الروح. كنت أنظر إلى الشيخ، وأحاول رسم ملامحه وطبعها في ذهني كأنما كنت أتجرع حضوره مع كل جرعة من كوب الشاي الأصيل، وكان كل شيء يوحي بالأصالة، وجلس التاريخ وجلست الحضارة معنا، كنّا جميعا نشدو بآهات من القلب بل من الروح أيضا.

كيف بوسعي الآن أن أمحو من ذهني كل ما تريد الهمجية طمسه، كيف أنسى لمسات أصابعي على الجدران القديمة للمدينة، وكيف نستطيع أن نقتلع من ذاكراتنا كل ما يريدون قتله. أتابع أخبار حلب، ولا أجرؤ على الاتصال بأصدقائي مخافة أن أسمع أخبارا تقتل المزيد مني، أتابع كل شيء وأتسمر أمام المشاهد على التلفزيون واليوتيوب، وأتألم، وأشارك في وقفات واعتصامات لأجل وقف حريق حلب، لكن من ننادي فالعالم مشغول بإنتاج المزيد من آلات الدمار والموت، ولن تنتصر الحياة طالما هناك تجار للموت، وطالما هناك استبداد لا يهمه لا الحجر ولا البشر، بقدر ما تهمه المصالح الشخصية والمكاسب والكراسي. هذه حرب اللؤم ضد الحياة. ولي أن أقول لحلب وأهلها أنا عراقي من حلب وموسيقي عاش في قدودها، وما زال يحس بطعم شايها، وابن المطبخ البغدادي الأصيل الذي استهواه طعم أكلها خارجا من مطابخ سيدات حلب، وابن حضارات يستلهم من حضارتها، حلب الأصدقاء الذين أحببت، حلب الروح والقلب معا. لي أن أقول من قلبي سلاما، ومن روحي سلاما.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى