تطرح الأحداث المتسارعة في الحرب السورية التي قامت على أنقاض الثورة وتوحش سياقاتها أسئلة، وإن بديهية، لكنْ تستعصي عليها الإجابات العقلانية الباردة التي تحتاجها إدارة أي صراع. وإذ كشفت معركة حلب المشتعلة حالياً وجهاً نافراً من ذلك الاستعصاء، يتعلق بالشق العسكري، فإن «الاستفتاء» السوري على شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، غداة الانقلاب الفاشل عليه، أماط اللثام عن تناقض آخر، ناعم وخفي يعنى تحديداً بالشق السياسي الذي سيرسم مستقبل سورية. مستويان من الأسئلة/ الاستحقاقات لا يحتملان التأجيل ريثما يتم الانتهاء من واحد والانتقال بعده الى الثاني، على ما شهدنا في السنوات الخمس الماضية من ترقيم للأولويات أحالها جميعها الى مصاف الفرص الضائعة.
أما التناقض السياسي المطروح حالياً، والذي كشفه فشل الانقلاب التركي ولا يبدو أن النقاش فيه بدأ بعد، وقد لا يبدأ أصلاً، فهو كيفية التوفيق بين التأييد المطلق للرئيس التركي بصفته الصديق الوحيد للثورة السورية، ورفض حلفائه من «الإخوان السوريين» رفضاً قاطعاً والامتناع عن التعامل أو التواصل معهم. وإذ يوفق معارضون سوريون علمانيون و «معتدلون» بين القبول بحكم حزب «العدالة والتنمية» في تركيا لأن النظام علماني، ولأن هناك دستوراً يحمي الحياة السياسية، يرفضون حتى احتمال وصول «الإخوان المسلمين» الى المشهد السياسي في سورية، رغم إقرارهم بأن هؤلاء قاوموا النظام البعثي ودفعوا أثماناً باهظة.
وفي ذلك ما يشبه انتقائية بعض اليسار العربي في البحث عن قشة «المقاومة»، وسط تلال السياسات والأيديولوجيا والسلوكيات المرفوضة لديهم جملة وتفصيلاً لدى محور الممانعة.
وتفرض البداهة أن يقف المعارضون للتيار الإخواني في الثورة السورية، على مسافة واحدة من «الإخوان» الأتراك، وأن يحاولوا ربط الأواصر مع مَنْ يشبهونهم من الأحزاب التركية لكسبهم الى صفوفهم أو أقله فك ارتباطهم بنظام بشار الأسد «العلماني». ويفترض أن ذلك بات متاحاً أكثر بعد رفض الأحزاب المعارضة الانقلاب ووقوفها الى جانب «شرعية الصناديق» و «الديموقراطية». ولكن بقي السائد خطاب «تجديد البيعة» من دون شروط أو مساءلة أو رسم تمايزات أو حتى إبداء مخاوف مما يتعرض له مثلاً ناشطون أو أكاديميون.
تلك هي المعادلة الحسابية المنطقية. إنها البداهة السهلة التي يصدي لها الواقع ويحيلها استحالة: مَنْ يملك ذلك الترف؟ مَنْ له أن يقف ضد دولة أمنت له الملاذ الآمن إنسانياً والى حد بعيد سياسياً؟ مَنْ له أن ينتقد تياراً سياسياً والطائرات تدك حلب وتطبق الحصار عليها؟ مَنْ سيقف ضد مَنْ يبذل نفسه لتحرير المدينة وأهلها؟
لا تكاد تظهر إجابة، حتى ينقضها سؤال.
وعليه، ففي الشق العسكري المتمثل في معركة حلب «الكبرى»، من الوهم الاعتقاد أن فتح الجبهات على هذا النطاق الواسع، وعلى غرار ما تشهده أحياء المدينة من تقدم كبير للفصائل ودفق للسلاح ليس من النتائج المباشرة لفوز أردوغان على خصومه الانقلابيين فوزاً كاسحاً.
كما هو من الوهم الظن أن التقدم في فك الحصار عن حلب تزامن بمحض مصادفة مع فك ارتباط «جبهة النصرة» بتنظيم «القاعدة»، وأن رص الصفوف وتوحيد السلاح جاءا ثمرة يقظة ضمير مفاجئة وحسن نية للفصائل المقاتلة لا غير.
لا شك في أن ذلك وغيره من صُوَر أطفال يحرقون الإطارات لتشتيت الطيران منح جرعة هائلة من التفاؤل و «الأدرينالين» الضروريين في أي معركة وصراع وجود، لكن رفع ذلك الى مصاف «التكتيك الحربي المحكَم»، يداني السذاجة.
وصحيح أن مسألة سحل الطيار الروسي استقطبت الاهتمام كله، وأيقظت نقاشاً متجدداً حول «أخلاقيات الثورة» وسلوكيات الثوار، وهو نقاش بات أقرب الى البوح والتشظي الذاتي منه الى التفكير المؤدي الى تراكم معرفي ما، لا سيما أنه يعود ليطل برأسه بين الفترة والأخرى مثلما فعل قبل أيام قليلة من حادثة السحل، مع نحر طفل مقاتل من قوات النظام (وقبلهما بسنوات مع التهام قلب أو كبد…)، لكن الصحيح أيضاً أن هذه المشهدية الثأرية، كشفت مرة أخرى سذاجة الاعتماد المطلق على المشاعر الظرفية والانفعالات، من قبل أطراف يفترض أنها باتت أكثر نضجاً وحنكة من ترك المسائل اعتباطية».
وتقول البداهة أن الأجدى، في حالة كهذه، مقايضة جثامين الطيارين الروس بمكتسبات للثورة وناسها، كمثال الإفراج عن معتقلين أو معتقلات. لكن الواقع يقول إن لا جهة سياسية يمكنها أن تؤدي هذا الدور وتملك الصلاحيات اللازمة من شرعية تمثيل في الداخل والخارج في آن.
فلنحاول أن نتخيل مَنْ هو المكون الثوري الذي يملك سلطة ميدانية أو معنوية تتيح له أن يطالب الأهالي بتسليمه جثث «المقاتلين الأعداء»، أو يفرض عليهم قسراً لا طوعاً عدم الانجرار خلف الثأر والتحلي بأخلاقيات الحرب وغير ذلك من المنمقات؟ ومن هو في المقابل المكون الثوري الذي يمكنه أن يفاوض الخارج (الروس في هذه الحالة) على صفقة من هذا النوع؟
وإلى ما سبق، كشفت حادثة سحل الطيار انسحاب السياسة وهياكلها عن مناصرة القضية، وتسليمها بالكامل (وبتلك السذاجة نفسها) لمن يستطيع توحيد الرايات ورص الصفوف على الجبهات. وهو طرف لا يزعجه بالضرورة مشهد السحل ولا يضنيه الأرق من تشويه «صورة» الثورة. تكفي متابعة التهليل والتكبير لإنجازات «المجاهدين» (بات التعبير مستخدماً حتى من قبل معارضين علمانيين أو «معتدلين») وتأجيل المواجهة معهم لما بعد دحر قوات النظام الى خارج حلب.
ولكن، وفي الوقت الذي انقطعت الجسور كلياً بين مَنْ يملك الأرض ومَنْ يعتلي المنبر، تقدمت «جبهة النصرة» بحلتها الجديدة لتقول للعالم أنا قادرة على الإنجاز عسكرياً، وعليكم أن تفاوضوا من يمثلني سياسياً، وإن كان الثمن فك الارتباط بـ «القاعدة» فنحن له والوقت كفيل بأن ننال القبول… وليست تسمية العملية العسكرية الأخيرة باسم «ابراهيم اليوسف» إلا أولى تلك البشائر.
المصدر : الحياة