تختزل معركة حلب جوهر الصراع في سورية فقد تحولت المسألة السورية من نزاع داخلي تختلف الأنظار في توصيفه من حركة احتجاجية سلمية تطورت إلى مقاومة مسلحة بحسب أنصار الثورة السورية أو عبارة عن تمرد مسلح وعصابات إرهابية كما يرى أتباع النظام السوري لكن ديناميكية الصراع السوري سرعان ما أصبحت أحد أهم نقاط وخطوط اللعبة الإقليمية والدولية وباتت مدينة حلب مركز لعبة الشطرنج الاستراتيجية السورية.
شكلت التفاهمات الأمريكية الروسية لحظة فارقة في ديناميكية الصراع السوري منذ أيلول 2015 بتقاسم النفوذ والأعمال العسكري والحيلولة دون تحول سورية إلى نقطة مواجهة جيوسياسية وصولا إلى تسوية سياسية من خلال فرض اتفاقية هدنة على أساس بيان فيينا في 14 تشرين الثاني/ 2015 والذي دخل حيّز التنفيذ في 27 شباط 2016 والذي يستثني كلاً من تنظيمي «الدولة الإسلامية» و»جبهة النصرة» وقد أكد الاتفاق بين موسكو وواشنطن على تثبيت وقف إطلاق النار وكافة الأعمال العدائية بالتزامن مع استئناف العملية السياسية في جنيف وفقاً لخارطة الطريق الذي نص عليه القرار 2254.
في سياق البحث عن تفاهمات مشتركة بين أمريكا وروسيا شكلت موضوعة الإرهاب وتعريف الحركات والجماعات الإرهابية أحد نقاط الخلاف إلا أن الاتفاق توصل إلى التركيز على التصدي للحركات الموسومة بالإرهاب بحسب الأمم المتحدة وهي تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة حيث ركزت استراتيجية الولايات المتحدة على القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية وخصصت مواردها العسكرية والسياسية والمالية على استقطاب قوى معتدلة لاستدخالها في الحرب ضد داعش أما روسيا فقد تبنت استراتيجية تقوم على حماية المنطقة العلوية الساحلية وتعزيز موقع الأسد ودحر قوات المعارضة المسلحة عن المدن الكبرى وقطع خطوط إمدادها من الحدود التركية.
على الرغم من الخروقات العديدة في مسألة الهدنة إلا أنها نجحت في خفض الهجمات والأعمال العدائية لكن حلب كانت حالة استثنائية ونقطة خلافية وقد عبرت أمريكا مرات عديدة عن خشيتها من النوايا الروسية التي عملت من خلال إسناد الجيش السوري وحلفاؤه من الإيرانيين ومليشياتهم الشيعية على السيطرة على ممر أعزاز للتمكن من قطع المنافذ الشمالية بين مدينة حلب وتركيا وهي عملية بدأت منذ 2 شباط 2016 بمشاركة قوات شيعية موالية للنظام في بلدتي نبل والزهراء وعناصر من «حزب الله» اللبناني ومليشيات شيعية مدعومة من إيران أمثال «كتائب بدر» العراقية وميليشيا «الدفاع الوطني» السورية المحلية، وفي ذات الوقت شاركت قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي المتعاونة مع الجيش السوري بمحاولة الإطباق على أعزاز ومحاصرة فصائل المعارضة.
أفضت التفاهمات الأمريكية الروسية إلى خلق شكوك لدى فصائل المعارضة السورية المسلحة حول تصورات الحل النهائي حيث بات الحديث عن عملية سياسية تنتهي برحيل الأسد شيئا من الماضي وتحولت الهدن إلى فرص لإعادة سيطرة الجيش السوري وخلق واقع ميداني جديد لا مكان فيه للمسلحين وخصوصا الجهاديين الأمر الذي دفع الفصائل الجهادية في حلب للتوحد والخروج عن خطوط اللعبة الدولية وقد عملت جبهة النصرة على خلط الأوراق ونزع ذريعة الإرهاب في 28 يوليو 2016 وأعلنت عن إلغاء العمل باسم «جبهة النصرة لأهل الشام» وتشكيل كيان جديد يحمل اسم «جبهة فتح الشام» وكانت دوافع النصرة تستند إلى قراءة للوضع الميداني السوري وتعقيداته عقب التدخل الروسي والتفاهمات الأمريكية الروسية وهي مبادرة موجهة بالأساس للفصائل الجهادية السورية وفي مقدمتها حركة أحرار الشام والقوى الحليفة المشكلة لـ»جيش الفتح» والذي جاء تشكيله بدعم إقليمي وتفاهمات تركية قطرية سعودية في 24 آذار 2015 ويضم جبهة النصرة، وأحرار الشام، وجند الأقصى، وجيش السنة، وفيلق الشام، ولواء الحق، وأجناد الشام.
أسفرت عمليات فتح حلب التي تقودها جبهة النصرة (جبهة فتح حلب) إلى جانب حلفائها الاستراتيجيين من المقاتلين الأجانب في جبهة أنصار الدين وحركة أحرار الشام وفيلق الشام وهي فصائل مقربة من جماعة الإخوان المسلمين وحركة نور الدين زنكي وجيش الفاتحين عن فك الحصار عن مدينة حلب وخلقت دينامية جديدة حيث باتت القوات والأحياء الموالية للنظام السوري محاصرة وهكذا فقد عاد الصراع على سورية إلى سيرته الأولى وأصبحت التفاهمات الأمريكية الروسية في مهب الريح.
أحد الاستنتاجات الهامة تشير إلى أن سورية قد دخلت نادي الأزمات التي لاحل لهل على المدى القريب والمتوسط وقد برهنت العمليات العسكرية في حلب على صدق ذلك كما برهنت على أن التطورات الجديدة في ديناميكية الصراع السوري قد أربكت جهود مكافحة الإرهاب بحيث أصبح الحديث عن فتح جبهة الجنوب ضد تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة أكثر تعقيدا وينطوي على مخاطر جمة وهكذا فإن التعامل مع المسألة السورية عبر مقاربات جزئية تستند إلى موضوعة الإرهاب لم تعد مجدية ولا بد من منظورات سياسية أكثر تكاملية وشمولية للتوصل إلى حلول عادلة ونزع فتيل الحرب وإحلال السلام.
المصدر : الرأي الأردنية