عندما سجّل ماكس فيبر أمامنا أن الدولة هي الاحتكار الشرعي للقوة الطبيعية، كان مشغولاً حتماً بالقوة بوصفها القادرة على ضمانة العقد الاجتماعي ولم يتخيّل عنفاً كالذي تمارسه «الدولة» في سورية أو الذي تستقدمه هذه «الدولة» من الخارج في حربها مع المجتمع السوري. نقول هذا في ضوء تطوّر هذا «الاحتكار» في الشام إلى جرائم متنقّلة ضد السوريين، أفراداً وجماعات، وضد الإنسانية أيضاً.
لكننا وبسبب من مَفْهمة الاجتماعي والسياسة والعلاقات الدولية بمصطلحات «الدولة» و «الأنظمة» و «السيادة» و «الأمن»، فإننا بالمجمل لا نزال نرجّح كفّة هذه الدولة لدى حصول العنف، فنقبل عنفها مهما اشتدّ وأوقع من جرائم ونلجأ إلى تبريره. بل يبدو لي أحياناً أن مفهوم الدولة قد استبطن على نحو مرضيّ نفوسَ الناس ـ وليس العرب حصراً ـ إلى حدّ قبول كل شيء يأتي منها.
ومنه هذا التدمير والتقتيل المُطلق بفائض عنف لـ «الدولة» السورية. بل رأينا أن هذه الدولة تستعين بعُنف دول أخرى ليعمّ العنف ويطغى.
حيال مثل هذا المشهد أنشأ الفوضويون خطابهم الذي أسس لنقد قوة الدولة واحتكارها «العنف الشرعي»، ربما لأنهم، على خلاف ماكس فيبر، أحسّوا على جلودهم تبعات هذا العنف وفظائعه في الحالة النازية أو الستالينية. أرادوها شرعية مكبوحة مسبقاً، الأمر الذي استعدى تنظيراً لشرعية رفع المواطن السلاح في وجه الدولة في حال اعتدت على حقوقه. هناك حدّ للانصياع والامتثال، بخاصة عندما تتعمّد الدولة ـ بواسطة النظام ـ انتهاك أسس العقد الاجتماعي وانتهاك الحريات والحقوق في شكل نهائي. ومن هنا أيضاً تلك التنظيرات الحقوقية والفلسفية حول الحالات التي يكتسب فيه عنف الأفراد ضد الدولة شرعية ضمن العُرف الدولي.
كان من المفروض أن تحكم مؤسسات هيئة الأمم المتحدة وتبتّ في مدى شرعية هذا العنف أو ذاك. وقد فعلت ذلك إما بالتواسط أو من خلال استعمالها العنف في مواجهة عُنف الدولة أو الأنظمة (يوغوسلافيا سابقاً ورواندا وليبيا والعراق والقائمة طويلة). لكنها وبقدر أكبر لم تستعمل العُنف في حالات بدا أو يبدو أن «الدولة» لجأت إلى قوة مُفرطة خارج مفهوم العقد الاجتماعي ناحية جرائم الحرب والإبادة والتطهير العرقي. واللافت مثلاً أن الأسرة الدولية تدخّلت على نحو ما ضد «داعش» ومشاريعها في العراق وسورية، لكنها لم تتدخّل لحماية المدنيين ومنع جرائم الحرب بقدر ما تدخّلت حماية لمصالحها. وهي لم تتدخّل أبداً لوقف حرب «الدولة/النظام» في سورية ضد المجتمع السوري أو لوقف حرب نظام الأقلية الدموي ضد الأكثرية في سورية. ولم تحرّك ساكناً ضد استقدام نظام الأقلية الأمني لقوى عسكرية دولانية أو مرتزقة وزجها في الحرب ضد السوريين والسوريات.
هكذا، تبقى سورية الحرب التدميرية بمنأى عن تدخّل مجلس الأمن الدولي الذي تأسس منذ البداية على مبدأ التدخّل ضد الدول لحماية مجتمعاتها منها، أو لحماية دول من دول أخرى معتدية. سورية استثناء غريب، علماً أن درجة العنف التي «أنجزها» النظام الدموي فيها بلغت حد الإبادة وجرائم الحرب والأرض المحروقة واستعمال الأسلحة المحرّمة دولياً. لقد تجاوزت الدولة/النظام في سويرة كل الحدود وكل القوانين التي تتيح لمجلس الأمن التدخّل، ومع هذا لا يزال عنف الدولة مستمراً ومتصاعداً. ويُقدر أن 95 في المئة من الضحايا والتدمير يحدث بأيدي النظام وحلفائه. بل إن موجات التقتيل التظاهري بأيدي «داعش» وغيرها من فصائل الإسلام العدمي لم توقع سوى القليل من الضحايا قياساً بما أوقعته «الدولة» السورية بحق شعبها، ومع هذا رأينا أن التدخّل هو ضد «داعش» وليس ضد دولة النظام السوري! وهذا، ليس لأن هناك تجييشاً ضد داعش بل لأن هناك تواطؤاً دولياً مع عُنف الدولة من حيث المبدأ. وقد رأينا كيف يتمّ استخدام فزّاعة «داعش» من أجل الانقضاض على قوى الثورة المدنية والعسكرية الواعدة في سورية.
مثل هذه المناورات في إطار العلاقات الدولية هي التي فتحت الثغرات في التاريخ البشري ليُسجّل التاريخ أبشع مشاهد ممكنة من إبادة جماعات بشرية وتدمير كامل لمدن وحاضرة وتطهير عرقي لبلاد. ومن هنا أتمنى الفشل لتحالف النظام وروسيا وإيران و «حزب الله» في حلب وانتصار المدينة على الطاغية. علماً أنني أعرف موازين القوى. لكن انتصاراً كهذا قد يؤثّر ولو أثر الفراشة في خريطة اصطفاف الدول والقوى الفاعلية في الساحة السورية، لأن القضية ليست «داعش» أبداً بل عنف النظام/الدولة الذي تجاوز منذ مراحله الأولى حد جرائم الحرب.
المصدر : الحياة