الحياة والسياسة والقتل والدمار في سورية لن تتوقف حتى تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، حين يختار الأميركيون رئيساً جديداً، يجب ألا يتوقع أحد أنه سيكون مختلفاً كثيراً عن الرئيس الحالي باراك أوباما في ما يخص السياسة الأميركية السيئة في عالمنا، فالتراجع الأميركي الحالي ليس حالاً تخصه وسياسة ابتدعها، وإنما هي تعبير حقيقي عن مزاج أميركي متحول بات ينحو إلى الانعزالية والاهتمام بالداخل (الاقتصاد).
يفترض أن تنتفض أميركا غضباً وهي ترى قاذفات روسية بعيدة المدى تقلع من مطار همدان الإيراني لتقصف أهدافاً في سورية، ليس غضباً وحرصاً على الشعب هناك، فليس هذا بين حسابات أوباما، الذي سقط غير مرة أمام هذا الامتحان الأخلاقي، وإنما من باب التوازنات الاستراتيجية في المنطقة، فهو حدث لا يقل أهمية عن صفقة السلاح التشيخي التي أبرمها الرئيس المصري الراحل عبدالناصر مع السوفيات عام 1955 وكانت إيذاناً بمجيئهم إلى المنطقة.
كان رد الفعل الأميركي وقتها سلسلة من الأخطاء الاستراتيجية التي عززت الحضور السوفياتي، ولكن على الأقل كان هناك «رد فعل». هذه المرة اكتفت واشنطن بالتعبير عن قلقها وعدم رضاها وأن ذلك يخالف اتفاق «خمسة زائد واحد» المبرم مع إيران العام الماضي، ثم أضافت أنه تمت «إحاطتها علماً» بالأمر، ما يعني أنها لن تفعل شيئاً. أميركا لم تفعل شيئاً لكبح جماح الروس في أوكرانيا، فلماذا نتوقع أنها ستفعل شيئا كهذا في عالمنا؟
جيل ما بعد الحرب الثانية الأميركي والأوروبي الذي ما كان يتردد في القفز بمغامرات تدخل خارجية، صحيحة كانت أم حمقاء، مضى، وحل محله زعماء شباب مشغولون أكثر بمناقشة أنظمة التأمين الصحي ونسبة الفائدة والاستمتاع بالحياة أكثر.
ولكن تتذكر أميركا وبريطانيا وفرنسا أنها دول عظمى بين آونة وأخرى، فتمارس «سياسة خارجية» ولكن بتخبط، تراوح بين اللامبالاة والتراجع عن خطوط حمراء وتحذيرات التزمت بها في اجتماع أممي حافل، في قاعة تاريخية بباريس أو فيينا، ينتهي بعدم التدخل لحماية الشعب السوري، أو الوقوف متفرجين وهم يرون انقلابيين في اليمن وعصابات مسلحة يلقون في وجه الأمم المتحدة اقتراحات للسلام هي من قدمتها، وأتحدث هنا عن مبادرة السلام التي اقترحها المبعوث الأممي للأمم المتحدة إسماعيل ولد الشيخ، في نهاية جولة مفاوضات امتدت أربعة أشهر بالكويت، ذهبت هدراً بعدما رفضها الحوثيون. لم يغضب المجتمع الدولي، لم يستطع حتى أن يعقد جلسة لمجلس الأمن، واكتفى بالقول إن المفاوضات ستستمر. الموقف نفسه في سورية، مفاوضات من دون عضلات دولية تنتهي إلى لا شيء. الشيء الوحيد الذي يجري هو مزيد من التغول الروسي والإيراني، وأخيراً الصيني، ورد الفعل الوحيد القادر هو المقاومة السورية واليمنية، اللتين تنتظران دعماً أكبر وأقوى، من حلفائهما السعوديين والأتراك.
لم يعد مهماً الإجابة عن السؤال اللغز: لماذا يستمر الروسي بالتورط أكثر في الوحل السوري؟ هل لأنه سعيد بفرد عضلاته على الأميركي الضعيف، لعقدة تاريخية تحكم العلاقات بين البلدين، أم لخشيته حقاً من صعود قوة الجهاديين القادمين من عالمه ويخشى أن يعودوا إليه، من شيشان وطاجيك وأوزبك وداغستانيين، بل حتى روس، قصص غامضة تأتي من سورية حولهم، آخرها قصة «جليمورد خاليموف» ضابط في قوات النخبة الطاجيكية التحق بـ «داعش»، وظهر في مقطع يهدد ويتوعد الأميركيين الذين يعرفهم جيداً، ذلك أنه حصل على ثلاث دورات بالولايات المتحدة للتمرس في الحرب على الإرهاب ضمن برامج واشنطن للتعاون مع حكومات قمعية كالحكومة الطاجيكية، ولكنها مرضي عنها طالما أنها تحارب الإرهاب. ربما تهديدات خاليموف للأميركيين تسعد الروس، لكنهم يعلمون أنه لو عاد إلى بلاده فسيحاربهم أيضاً.
لا أحد متفق على تعدادهم، معظمهم مع «داعش»، وقليلون منهم مع «النصرة» سابقاً، («جيش الفتح» حالياً)، وآخرون مستقلون، لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء، نعم لقد أصبحت سورية ساحة للجهاد العالمي، للتدريب والإعداد والتطلع إلى ما بعدها، ولكن لماذا لا يستمع الروسي للسعودي والتركي وهما يقولان له: ان ما تفعله هناك يغذي ذلك؟
حتى الصين، القلقة من تنامي قوة الحزب الإسلامي التركستاني، بدأت تتطلع إلى دور في سورية. لِمَ لا، وقد سبقها الروس إلى هناك، فرحب بهم النظام الذي خلع كل ملابس السيادة وبات مستعداً لاستقبال كل من هب ودب والتعاون معه، طالما أنه سيقاتل معه ويحميه، فلا يهمه ما هدف الجيش القادم، ولا ماهية مصالحه المعلنة أو السرية؟!
من المفارقات أن معظم جهاديي «عالم بوتين» دواعش، بينما الجهاديون الصينون أقرب إلى «القاعدة»، وعلاقتهم جيدة بالثوار السوريين، إذ أبلوا بلاءً حسناً في المعركة الأخيرة لفك الحصار عن حلب.
يجب فرد خريطة هذا العالم المضطرب والمتداخل في الشمال السوري، ونحن نحلل التصريحات المتضاربة أن الأميركيين والروس سيشرعون في عمليات مشتركة للحرب على الإرهاب في حلب، كما صرح وزير الدفاع الروسي الإثنين الماضي من دون أن يجد رجع صدى من الأميركيين، وقبل ذلك مرت تصريحات عن تعاون تركي روسي للحرب على الإرهاب في سورية إثر اجتماع الرئيسين أردوغان وبوتين، وهي في الغالب تصريحات مسكنة ستنهار عندما تنتقل من جملة «الحرب على الإرهاب» إلى تحديد «من هو الإرهابي»؟
فالتركي يرى الكردي الذي يدعمه الأميركي إرهابياً، والتركستاني مجاهد يراه الصيني إرهابياً، والروسي يرى الجميع إرهابيين، والأميركي الذي لم يعد يعرف أين يقف!
لعل الحلبيين هم أفضل المحللين الإستراتيجيين في المنطقة، لم ينتظروا ما تسفر عنه الانتخابات الأميركية، بل ولا حتى نتيجة اجتماع حليفهم التركي بعدوهم الروسي، ولا اختلاف القوم على «من هو الإرهابي؟» اتفقوا على فك الحصار عن مدينتهم، اتحدوا وفعلوها وقلبوا الطاولة على الجميع. ليس مهماً من زودهم بصواريخ «تاو»، التي فتكت بالمدرعات الروسية، أكانت السعودية أم تركيا أم قطر، أم الثلاثة معاً، ولا فيما إذا كانت معركتهم وانتصارهم سيخدمان مخططات إقليمية لحلفائهم. المهم عندهم أن يفرضوا هم مخططهم على الجميع، من موسكو حتى واشنطن، مروراً بالرياض وأنقرة، وأعتقد بأنهم حصلوا على الاحترام والاعتراف الذي يستحقونه.
المصدر : الحياة