تبدو حلب اليوم محور الجهد العسكري في شمال سوريا. تأكّد ذلك بتصريح فلاديمير بوتين الأخير: «لا خيار أمام روسيا سوى تطهير وكر الإرهابيين في مدينة حلب على الرغم من وجود المدنيين ايضاً».
لماذا قال بوتين «لا خيار أمام روسيا» ولم يقل لا خيار أمام سوريا أو أمام سوريا وحلفائها؟ لأن روسيا تريد إفهام الولايات المتحدة وتركيا ودول حلف «الناتو» أنها معنية بالدرجة الأولى بمعركة حلب، وأنها جادة في تحريرها من تنظيمات الإرهاب مهما كلّف الامر، وأن التلويح بمنطقة حظر جوي فوق شمال سوريا لن يثنيها عن استكمال مهمة التحرير.
واشنطن أدركت مؤدى رسالة بوتين. سلّمت بحتمية سيطرة سوريا، ومن ورائها روسيا، على حلب، وبأن لا مساومة في هذا الأمر. غير انها تحسّبت لاحتمال قيام دمشق بتوجيه جيشها ووحدات المقاومة المتحالفة معه إلى الرقة لتحريرها بالتزامن مع قيام الجيش العراقي و»الحشد الشعبي» بتحرير الموصل، فسارعت إلى التفاهم مع رجب طيب اردوغان على التلويح بسيناريو جديد: مشاركة انقرة في معركة الرقة بدءاً بالسيطرة على مدينة الباب، شمال شرق حلب، بدعوى تحريرها من «داعش».
المفارقة أن موسكو كانت توصّلت إلى تفاهم غير معلن مع انقرة على إبقاء مدينة الباب خارج نطاق عمل قوات «درع الفرات» الموالية لتركيا. غير أن تطورات معركتي الموصل وحلب دفعت انقرة إلى تعديل مخططها بإعلان اردوغان شخصياً خط تحرك ميدانياً مغايراً يرمي إلى لجم تقدّم الجيش السوري وقوى المقاومة الحليفة بإطلاق «ملحمة حلب الكبرى» بغية اختراق الأحياء الغربية للمدينة من جهة، ودفع قوات «درع الفرات» للسيطرة على مدينتيّ الباب ومنبج وصولاً إلى المشاركة في معركة السيطرة على الرقة من جهة أخرى.
يبدو أن اردوغان جادٌّ في ما اعلنه بشأن الباب ومنبج، اي بشأن «المنطقة الآمنة» التي يبغي اقامتها في شمال سوريا بمساحة لا تقل عن خمسة آلاف كيلومتر مربع. مَن يتابع وسائل الإعلام التركية يلاحظ اهتمامها الشديد، بإيعاز من حكومة اردوغان، بالأهمية التي تعلّقها انقرة على مدينة الباب. صحيفة «حرييت» وصفتها بأنها «مفتاح مستقبل تركيا في سوريا». صحف أخرى كانت وصفت معركة الموصل وضرورة مشاركة تركيا فيها بأنها مفتاح مستقبل تركيا في العراق أيضاً إذ لها مطامع «عثمانية» قديمة في كِلا البلدين. كيف ردّت موسكو ودمشق على هجمة تركيا الاخيرة المجازة امريكياً؟
لعل تصريح بوتين الاخير حول حتمية «تطهير وكر الإرهابيين في مدينة حلب» هو اول بواكير الردود الروسية التي تَرَدَدَ انها ستتصاعد إلى أن يتمّ استكمال تحرير المدينة قبل انتهاء ولاية الرئيس باراك اوباما في 20 يناير المقبل.
الى ذلك، استضاف وزير خارجية روسيا اجتماعاً طارئاً مع نظيريه السوري والايراني، تركّزت مباحثاته على اتخاذ التدابير وتوفير القدرات اللازمة لردٍ متعدد الجوانب على «داعش» وحلفائه في جبهتي حلب والموصل باعتبارهما مسرحاً واحداً لهجومه المتكامل ضد سوريا والعراق في آن. ولعل أهم قرارين جرى اتخاذهما في هذا المجال تسريعُ عملية تحرير الاحياء الشرقية في حلب من تنظيمات الإرهاب، والتوافق على التدابير العسكرية اللازمة لمنع تهريب مقاتلي «داعش» المدحورين من الموصل إلى الرقة في سوريا.
من مجمل التطورات السياسية والميدانية في مسرح الصراع السوراقي (السوري-العراقي)، يمكن استخلاص الحقائق الآتية:
تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) هو نفسه مَن يحتل الموصل ومحيطها في العراق، والرقة واجزاء واسعة من شمال حلب وجنوبها، ويتولّى بالتعاون مع قوى خارجية، اقليمية وغربية، مقاتلة حكومتي العراق وسوريا بلا هوادة.
تركيا تتعاون مع «داعش» على نحوٍ واسع ومعقّد، وتشكّل المدخل الرئيس عبر حدودها الطويلة مع سوريا والعراق لمقاتليه القادمين من شتى انحاء العالم، ولاسيما من دول آسيا الوسطى، ولأسلحته وعتاده ومدرّبي قواته.
الولايات المتحدة لا تستهدف في ضرباتها «داعش» بل تبتغي استخدامه في اغراضها، ولا سيما في سوريا بدليل مساعدته مرات عدة كان آخرها قيام سلاحها الجوي بضرب مواقع للجيش السوري محيطة بمطار دير الزور العسكري لتسهيل اجتياحه، وإضعاف سوريا اقتصادياً بضرب ثلاثة جسور على نهر الفرات. ثمة تفاهم ضمني بين الولايات المتحدة وتركيا و»داعش» على تأمين انسحاب مقاتلي هذا التنظيم المندحرين من الموصل إلى الرقة من أجل تصعيد القتال ضد سوريا وجيشها وحلفائها.
دمشق وطهران وموسكو فسرت الإعلان عن هجوم وشيك من قبل الولايات المتحدة وتركيا وحلفائهما المحليين لتحرير الرقة من «داعش» بأنه مجرد دعاية في إطار انتخابات الرئاسة الامريكية من جهة، ولإحباط اي محاولة سورية لفتح معركة مبكرة لتحرير الرقة من جهة اخرى. قد تفاجئ دمشق، بالتعاون مع حلفائها، «داعش» بشن هجوم مبكر على مدينة الباب لتحريرها، وبالتالي إجهاض المخطط التركي الرامي إلى إقامة «منطقة آمنة» في شمال سوريا. وما «ملحمة حلب الكبرى» إلاّ محاولة داعشية وتركيا لتعطيل هجوم الجيش السوري المرتقب لتحرير الباب. ان لا تغيير محتملاً في سياسة الولايات المتحدة قبل الانتخابات الرئاسية، الامر الذي يعزز احتدام الصراع ضد وكلائها وحلفائها في الاشهر الثلاثة المقبلة.
الأرجح أن تكون روسيا وسوريا وايران قد اتفقت على ضرورة تحرير الاحياء الشرقية في حلب بالسرعة الممكنة مستفيدةً من «الشلل» النسبي للادارة الامريكية في مرحلة الانتخابات الرئاسية. كما من المحتمل أن تكون الدول الثلاث قد توافقت على جدوى تحرير مدينة الباب بالتزامن مع معركة تحرير الموصل من «داعش»، الامر الذي يخدم اهداف سوريا والعراق في مواجهتهما لتركيا الساعية إلى انتزاع مكاسب جغرافية من البلدين بدعوى مواجهة الحركة الانفصالية الكردية في البلدان الثلاثة.
اذا تمكّن الجيش السوري من الوصول إلى مدينة الباب قبل تركيا وحلفائها فإن قول صحيفة «حرييت» التركية «إن الباب مفتاح مستقبل تركيا في سوريا» يتحقق بشكل معكوس تماماً اذ تصبح الباب مفتاحاً لإخراج تركيا من شمال سوريا كما من مستقبلها.
المصدر : القدس العربي