إنها قصة مدينتين تسمّيان الموصل وحلب، وهما من أقدم مدن الشرق في التاريخ، وقد اشتركتا على امتداده معاً في كيانات سياسيّة، وارتباطات اقتصاديّة، وامتزاجات اجتماعيّة منذ عهود الأمويين والعباسيين، مروراً بالحمدانيين والعقيليين والأتابكة الزنكيين، وصولاً إلى الأيوبيين وانتهاء بالعثمانيين، كما بقيت كلّ منهما تشكّل حصناً منيعاً أمام الغزاة، سواء الفرس الساسانيين أم الروم البيزنطيين.. ولعلّ أشهر شراكة تاريخية لهذا التوأم وقوف حلب، بقيادة واليها الوزير، حسين باشا القازوقجي، إلى جانب الموصل في دفاعها الأسطوري ضدّ حملة نادرشاه على الموصل وحصاره لها 1743 ميلادي، وكانت بقيادة واليها الوزير، حسين باشا الجليلي، وقد انتصرت على ذاك التنين الأحمر انتصاراً تاريخياً.
لعلّ أولى الإشارات التاريخية لتعرّض المدينتين لكلّ ما يصادفهما اليوم، إنما يدّل دلالات واضحة على أهميّتهما الاستراتيجية، كونهما تمثلان عمقاً تاريخياً لكلّ من العراق وسورية، ناهيكم عن موقعيهما الاستراتيجيين لكلّ من العرب والأتراك والإيرانيين.. وكان العالم قد رصدهما طويلاً، إبّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وجرى التركيز عليهما، إذ عاش بين ظهرانيهما قناصل عديدون، وزارهما عشرات الرحالة والآثاريين، وتأسسّت فيهما عدّة بعثات تبشيرية، وهما تؤأمان حقيقيان، عاشتا تشابه إحداهما الأخرى، خصوصاً في الثقافة والطبائع والخصوصيات الاجتماعية. وتتميز الاثنتان بنسيجهما السكاني المتنوّع، فقد استوطنهما العرب منذ القدم، وكانتا موطناً للسريان الآراميين، وغدتا مركزي جذب لكلّ من الكرد والترك وعناصر سكانيّة أخرى، وخصوصاً من بلاد الجزيرة الفراتية ومن الأناضول.
تتفاقم الهجمة اليوم، منذ أكثر من سنتين على المدينتين، بشكل يستدعي القلق على مستقبليهما، وتفكّكهما الداخلي بنزوح أهاليهما، بعد أن فشلت كلّ من حكومتي سورية والعراق في حمايتهما ووقايتهما من التحدّيات التي عصفت بهما، وإذا كانت حلب قد تمزّقت جرّاء حربٍ قذرة، وتلقّت الحمم والقنابل من سمائها، وأفرغت من سكانها بعد أن سحقت مآثرها، ودمرت أحياؤها، وهجرها 80% من سكانها، وغدت أجزاء منها أشلاء وخراباً، فإن الموصل تعرّضت، منذ عشر سنوات، لأهوالٍ من نوع آخر، جرّاء الإهمال والتهميش والإقصاء، إذ تمثّل ذلك بولادة خلايا إرهابية نائمة كانت مدّعمة، في البداية، من النظام السوري الحاكم الذي كانَ يرسل مجاميع الإرهابيين وبالمئات، وهم يفجرّون ويفخّخون ويقتلون ويدمّرون ويبتزون ويبطشون، ومروراً بمشروع اغتيال العراق، وانتهاء بهمجية قطع الرؤوس وتفخيخ السيّارات في المدن العراقية. وكان أهل حلب ودمشق يستقبلون الآلاف من الفارين، وخصوصاً من الموصليين الشاردين من قسوة الإرهاب وبطشه، ويشهد كلّ الذين احتموا بمدينة حلب على حسن استقبال السوريين الطيبين عموماً أولئك النازحين والفارين العراقيين منذ العام 2005 وحتى 2010.. ولم يكن أحد يدري أنّ الدمار سيلحق حلب ومدناً سورية أخرى لاحقاً.
ثمّة حقائق لابدّ أن ندركها قبل التأمّل في مستقبل هاتين المدينتين المنكوبتين، ذلك أنّ كلتا المدينتين تمتلك نسيجاً اجتماعياً تتنوّع فيها الأديان والأعراق، لا المذاهب والطوائف، واستوعبت كلّ منهما سكاناً من الأكراد والتركمان الذين اختلطوا مع سكان المدينتين في دواخلهما. ولكن بقيت أطيافهم واضحة المعالم في الأطراف. جغرافياً، المدينتان هما أقرب المدن العربية إلى الحدود التركية، وإذا كانت الموصل هي المركز الطبيعي للدخول إلى جبال كردستان، ومنها إلى قفقاسيا وإيران، فإن حلب هي الأقرب إلى البحر المتوسط والأناضول. وعليه، تعد استراتيجية المدينتين الأساس الحقيقي لقوة الشرق الأوسط في العصر الحديث، كونهما المعبر الجاذب بين الشرق والغرب معاً في جغرافية العالم الاقتصادية والحضارية. ومن البديهي أن تعيش المنطقة دوماً تناقضات الماضي وصدامات الحاضر ومواجهات المستقبل. وستبقى تواجه تحدّيات صارمة وتدّخلات خارجية سافرة، ينتج عنها مزيد من الاضطرابات والكوارث.
من سخرية القدر أن تعيش كلٌّ من الموصل وحلب في قفص سلطة كلّ من بغداد ودمشق بعد اضمحلال الدولة في العراق 2003، وفي سورية 2011، وانسحاق النزعة الوطنية والأخلاقية في كليهما، بحيث أصبحت الأحزاب والمليشيات والعصابات الإرهابية تعبث بمصيرها من جانب، كما وغدا كلّ من البلدين مسرحاً لتدخلات الدول الإقليمية والخارجية. ما يثير القرف أن تنتقد الحكومة العراقية سياسات بشّار الأسد في السنوات الخمس الأولى بعد 2003، وفجأة تغيّر موجتها، كي نجد اليوم أكثر من عشرين مليشيا عراقيّة تقاتل على الأرض السورية من أجل إبقاء سورية في الفلك الإيراني. ويعترف الطرفان في بغداد ودمشق بقوّة علاقتهما بإيران وأجندتها في كلّ المنطقة.
إنّ التدّخلات الإيرانية السافرة في سياسات العراق وسورية جعلتهما يطوفان في بحرٍ من الدماء، وغدت المنطقة تنتقل من موديل إلى آخر، نتيجة التحوّلات الصعبة من الصراعات الطائفيّة، وتفاقم ذلك بالتدّخل السافر لكي تتحوّل الثورة السورية السلمية إلى حربٍ قذرة ضدّ الناس، وتتحكمّ بها اليوم عصابات طائفيّة وإرهابية، تنجز فجائع تاريخية برفقة الطائرات، وتحل فيها كلّ القسوة والآلام ليس من أجل إبقاء الأسد في السلطة فقط، بل من أجل أن يبقى نظامه حليفاً إيرانياً، وظهيراً قوياً لسياسات إيران في المنطقة العربية برمتّها. مررنا بصفحاتٍ لا تعدّ ولا تحصى من الصراعات، والتي يتفاقم حجمها يوماً بعد آخر، بل باتت اللعبة تجري على المكشوف، ولا نستثني حتى وجود “داعش” الذي قدم من سورية إلى العراق، وتفاقمت مخاطره، بإعلان خلافته الإسلامية من الجامع النوري الكبير في الموصل.
أصبح الخطاب الطائفي اليوم مشاعاً، وتبلورت احتقانات لا أوّل لها ولا آخر، ما يعجّل بصنع شحنات مضادة متفجرّة، غضباً على أجيالٍ قادمة، فما هي الصورة التي تمنحنا إيّاها الرؤية المستقبلية في ظلّ التفاعلات السريعة؟ أقول إنّ المنطقة كانت، وستبقى، تعيش سلسلة صراعات عنيفة، بسبب الأجندة التي تطمح إيران إلى تحقيقها بأيّ ثمن في ظلّ تدويل قضيتهما، فغدت حلب بأيدي الروس واستراتيجيتهم ومصالحهم، في حين غدت الموصل ومحيطها من نصيب الأميركيين واستراتيجيتهم ومصالحهم.. ولا ننسى التصريحات المهمّة التي يطلقها كلّ من البريطانيين والفرنسيين من حين إلى آخر. تسعى إيران، اليوم، من الحرب ضد داعش العمل للسيطرة على بلدة تلعفر غرب الموصل، لتكون نقطة اتصال نحو سورية، وقد حشدت آلاف المقاتلين المنضوين في مليشيات تابعة لإيران، في حين هددّت تركيا مباشرةً بتدّخلها لحماية تركمان تلعفر .. وقد أعلن أكثر من مسؤول عراقي، ومنهم نوري المالكي نفسه، أنّ مليشيات عراقية ستساهم في تحرير الرقّة السورية. وما يروّج إعلامياً يقابله صمت مطبق من الحكومة العراقية. السؤال: لماذا؟
ما يهمّنا أصلاً البنية الديموغرافية لسكان المدينتين المنكوبتين، والتي يسكت عنها العالم سكوتاً مطبقاً، وخصوصاً في تشرّد آلاف العوائل ونزوحها وهجرتها، وإفراغهما من سكانهما. ثم ما مصير الجيل الجديد في كلّ من هاتين المدينتين، مع انعدام الدراسة وانسحاق الجامعات والمدارس وكلّ البنية التحتية للمدينتين؟ ما يهمّنا أيضاً، مصير جيل كامل وصراعات الحقوق المستلبة والممتلكات المسحوقة على تراب أوطاننا كجزء من صراعات إقليمية، وإعلان شعارات طائفيّة مقيتة، والتوعّد بالانتقامات وأخذ الثارات من أجيال تتهم بخطايا لم تقترفها أبداً، ولكن بحجة أنهم أحفاد للأجداد الأوّلين من الأمويين الذين قتلوا الإمام الحسين (!).
إنها مانشيتات تاريخية موروثة، تعلن في ظروف صعبة جداً، ليس لتحقيق مآرب مذهبيّة باسمها، لكنها وسيلة ديماغوجية من أجل بناء استراتيجية امتدادات إيران نحو المتوسط، إذ لا يمكن لعاقل أن يؤمن أنّ للموصل وحلب علاقة بالتشيّع أبداً. ومن المعيب جدّاً على العرب أنهّم لم يواجهوا التحديّات الإيرانية بذكاء وخطط وأساليب غاية في الدهاء، بل تعاملوا مع المأساة تعاملاً غبيّاً. منطقتنا مقبلة، بعد الموصل وحلب، على صراعات متنوّعة لها مسببات عدّة في أماكن معينة، وستحترق مناطق أخرى لم تكن مشتعلة في الماضي. جوهر معضلة منطقتنا العربية اليوم امتلاكها المجال الحيوي الحقيقي في العالم.
المصدر : العربي الجديد