اكتظت حلب (وريفها) بمختلف أشكال الجيوش؛ فبعد أن كانت بعض الدول داعمةً للفصائل المقاومة للنظام، فإن موقفها تغيّر، وأصبحت في موقع “الحياد”، وهذا يسري على تركيا ودول أخرى. سهّل الموقف المذكور على إيران بالتحديد ومليشياتها التقدمَ في أحياء حلب الشرقية. انخفضت نسبة مشاركة قوات النظام فيها عن 15 بالمائة، وفق بعض الإحصائيات، والغطاء الجوي الروسي توقّف، أو اقتصر على طلعات محدودة أخيراً. وبالتالي، تنتصر إيران في حلب، وتخسر أميركا وتركيا، وطبعاً الفصائل المقاتلة، وكذلك يتقلص هامش تحرّك النظام؛ بل إن روسيا نفسها تشعر بتخوّفٍ كبيرٍ من التقدّم الميداني للإيرانيين.
ومن هنا، نلاحظ الضربات الروسية المستمرّة والمتقطعة للمناطق التي تعدّ مواليةً موالاة كاملة لإيران، كالضربات الموجهة لنبّل والزهراء وسواهما، وكذلك الإنذارات الروسية للنظام، بأن يفعل ما تأمره هي به، ويمكن قراءة دخول “داعش” مجدّداً إلى تدمر رسالةً روسية للنظام كذلك.
سيعني انتصار إيران دعماً لموقف النظام في مواجهة الضغوط الروسية، وكذلك في مواجهة العالم وإجباره على الاعتراف بدوره في المرحلة المقبلة، وهو ما يلحظ في أي نقاشات دولية الانتصار في حلب يعني انتصار الدمار في كل سورية، فقبل ذلك هناك مدينة القصير وقراها، وحمص وريف دمشق الغربي، وهناك بلدات كثيرة، وأخيراً حلب.
من الخطأ، عدم رؤية اللوحة السورية كاملة، فهناك الآن مناطق واسعة في درعا وحمص الشمالية وحماه وإدلب ودير الزور والرقة والبوكمال والمناطق التي فيها وجود كردي كبير، وكلّها خارج النظام، ويتطلب إنهاؤها زمناً طويلاً، وبالتالي، يساوي الانتصار في حلب دماراً وقتلاً، وليس من شيء آخر. يمكن القول إن انتصار حلب سيُدخل إيران لاعباً أساسياً في غرب دمشق وفي الشمال السوري، لكن هذا ليس نهاية المطاف، وإذا كان التخلص من الثورة الهدف الرئيسي للدول الإقليمية والعظمى، فإن الاستقرار السياسي يتطلب أخذ مصالح كل الدول المحيطة بسورية، أو المتدخلة بالشأن السوري. الخلاصة، هنا، أن إيران لن تُسعدَ بدمارِ سورية، وأن تلك الدول سيكون لها حصصها كذلك.
الحرب الإيرانية في حلب هي، في وجهٍ منها، تكملةً للحرب في الموصل بقيادة الحشد الشعبي، وإذ تداعب مخيلة القادة الإيرانيين أنهم أصبحوا مالكين أربع عواصم عربية، ويتوهمون إنشاء قاعدة عسكرية بحرية على الشاطئ السوري، فذلك كله سينتهي بمجرد الوصول إلى الحل السياسي. نقصد أن لروسيا استراتيجية مختلفة في الهيمنة على سورية، ولا يمكن تخيّل وجود احتلالين لدولة واحدة، وكذلك فروسيا اعتمدت على جيوش إيران لإخماد الثورة، ولا سيما أن إيران أقرّت بفشلها في دحر الثورة، وفاوضت الروس للمجيء إلى سورية. روسيا وكي لا تتورّط في حربٍ برية فاشلة، وبالتالي، هناك سياسات أخرى، سيُعمل بها بعد سقوط حلب، أي تحجيم إيران. تساعد في ذلك التسريبات الخاصة بالسياسة الأميركية، والتي ترفض التمدد الإقليمي لإيران في الدول العربية، وإن ليس لصالح تركيا، أو السعودية كذلك، أو أية دولة عربية.
كانت المشكلة الحقيقية هي الثورة بالنسبة للدول المتدخلة، وبتحجيمها بعد كل هذا الدمار والتهجير والقتل والمآسي، فإن الأمور إمّا أن تعود إلى سابق عهدها، أو سيتشكل حكمٌ يُراعى مصالح الأغلبية السورية. ومن دون ذلك، ستندلع حرب عصابات، أو ستظهر مليشيات أكثر تطرّفاً وجهادية. وبالتالي، هناك شروط واقعية يجب تحققها، لإخماد أسباب الثورة، ولمنع اندلاع التطرّف بشكل أوسع، وبطريقةٍ قد تكون حرب العصابات، وهذا يعني تحقّق مقدار معين من المشاركة الشعبية في كل مؤسسات الدولة، وتحجيم إيران بالضرورة، بل ووضع تواقيت زمنية لخروج الروس أنفسهم من سورية.
ساهمت التنظيمات الجهادية في تدمير الثورة وسورية، وإذا كان الإجماع الكوني على أن “داعش” يفرض اجتثاثه، فإن بقية التنظيمات الجهادية لعبت دوراً مركزياً في “واقعية” الحرب ضد تلك الجماعات. وفي الوقت نفسه، تمنع أية دولة إقليمية من الدفاع عنها بشكل علني،وبالتالي، هناك ضرورة سياسية تقع على المعارضة، وهي التبرؤ الكلي من أية جماعات جهادية وسلفية وإسلامية، تتناقض مع أهداف الثورة السورية ومصالح السوريين، ولها أهدافها الفئوية، والتي لا تتطابق مع العصر، وتستقي قوتها من الفوضى العارمة في الثورة السورية، وهي بكل الأحوال أداة سياسية لصالح النظام، وكل الدول المتدخلة في سورية. وقد أكدت تحليلات كثيرة “صناعة” التنظيمات المتطرفة، وبغرض تخريب الثورة، ومنع انتقالها إلى دول عربية أخرى.
بعد دمار حلب، ستكون معركة إدلب، وسيتم تدميرها بحجة جبهة النصرة أو فتح الشام، وكون الأخيرة مشمولة بقراراتٍ دوليةٍ، كقوة إرهابية، وكذلك هناك الرقة ودير الزور، وسيتم إكمال تدميرهما أيضاً؛ يهم مقالي هذا القول: إن التدمير سياسة النظام وحلفائه، بما يخص المناطق الثائرة والخارجة عن النظام. السياسة هذه لن تُخرجَ النظام قوياً، فهو ضعيفٌ وفاقد القدرة، وإيران وروسيا هما اللتان تقودان المعارك والدمار.
يمكن تسمية الخيار الأمني خياراً تدميرياً لسورية؛ وهو ما جرى ويجري. المستقبل السوري إذاً أمام حالتين، ولا شيء أكثر، الذهاب نحو حلّ سياسي يُنصف المناطق المتضرّرة من دمار سورية، وبالتالي ستُراعى مصالح الدول الداعمة للمعارضة، وستضمن بالضرورة تحجيم إيران وسيطرة روسيا على سورية. أو حلّ يتجاهل حقوق الأغلبية الشعبية في سورية، ويستكمل حصار ودمار بقية المناطق أو إجراء مصالحات معها. ولن يشكل هذا الأمر بيئةً آمنةً للاستقرار السياسي، وسيفتح المجال لحروب مستمرة من الجهاديين وغير الجهاديين، وقابلية للتفجر العنفي، حيث ستكون قوات النظام مدعومةً بالقوات الإيرانية، هي المتحكمة أو ستكون مليشيات مرفوضة شعبياً هي المتحكمة.
لن يسمح خيار الدمار هذا لدولٍ كثيرة بتقديم دعمٍ ماليٍّ لإعادة الإعمار، وتأمين حاجات ملايين السكان. ونضيف إن التهجير الذي شمل ملايين السكان لن يؤمن وجود بيئةٍ “نظيفة” اجتماعياً ودينياً، وصامتة عما جرى في سورية؛ فالسوريون عامة سيكونون أمامهم حاجات متعدّدة الأوجه، وهذا ليس في مقدور النظام تأمينه، ولا روسيا ولا إيران. وبالتالي، يتطلب أي استقرار عام في سورية بالضرورة حلاً سياسياً يتجاوز السياستين، الروسية والإيرانية، وسياسة النظام؟ فهل هذا ممكن؟
المصدر : العربي الجديد