اختلف الناس حول تطورات الأوضاع في حلب كثيرا. فبينما رأى بعضهم ما حصل مفاجأة غير متوقعة قال آخرون إنها نتاج طبيعي واستشراف متوقع لتطور الأحداث، وبينما حذر كثيرون من أن تكون الضربة القاصمة للثورة دعا قسم آخر إلى جعلها انطلاقة جديدة لها، وبينما حملت بعض الأطراف المسؤولية للفصائل السورية رأت أخرى أن تقاطع المصالح الدولية والإقليمية كان أكبر من إمكاناتها.
اختلف الناس حول هذه العناوين وغيرها، إلا أنهم اتفقوا على أمرين مهمين، الأول أنها لحظة فارقة واستثنائية في عمر الثورة السورية، والثاني ضرورة استخلاص الدروس المستفادة من هذه التجربة المريرة.
ولقد كتب بعض الأساتذة الكرام في الدروس المستفادة من معركة حلب ونتائجها بالنسبة للثورة السورية وفصائل المعارضة على وجه التحديد، بيد أنني أرى أن الدروس غير مقتصرة عليهم ولا محصورة بهم بل تمتد لتستفيد – ويجب أن تستفيد – منها كل حركة تحرر وطني أو تيار مقاوم أو فصيل معارض في أي بلد، سيما في العالم العربي. وأهم هذه الدروس برأيي:
أولا، الرؤية. تذهب كل التضحيات أدراج الرياح وتتحول الكثير من الجهود إلى عكس ما أريد منها في غياب رؤية ناظمة واضحة تحدد الأهداف والمراحل والأدوات، وبدون إستراتيجية شاملة تتحول كل التطورات والانتصارات التكتيكية والمرحلية إلى لا شيء، بل قد تخدم أهداف الخصم/العدو دون قصد.
ثانيا، بين السياسي والعسكري. مع كامل التقدير لما يقدمه المقاتل على جبهات القتال وتضحيته بالنفس والوقت والجهد والبعد عن الأهل (وربما بالمال) التي لا تفيها الكلمات حقها، لكن ذلك لا يعني أنه مؤهل للقيادة والتخطيط واتخاذ القرار. إذ لطالما اقتصرت حساباته على توازنات الميدان المباشرة ومحض المواجهة العسكرية بينما يهتم السياسي بالمشهد الإقليمي والدولي والظرف الراهن والتحالفات السياسية والتمويل المالي والدعم اللوجستي والملف الإعلامي وغيرها من المسارات بالغة الأهمية والحساسية، مما يجعله أجدر بالقيادة بشرط الصدق والإخلاص والكفاءة.
ثالثا، إدراك سقف الداعمين. أثبتت الأزمة السورية بشكل عام ومعركة حلب على وجه الخصوص أن “أصدقاء الشعب السوري” كذبة كبيرة وأن “المحور الثلاثي” لم يكتمل يوما، وأن كل دولة داعمة للمعارضة السورية لها مصالحها وتخوفاتها وحساباتها وعلاقاتها وسياساتها بما يحد كثيرا مما يمكن أن تقدمه. لقد فات منذ سنوات طويلة زمن كان ثمة تحالفات أيديولوجية ومحاور ناجزة ذات رؤية موحدة، وباتت كلمة “الحليف” محض أسطورة حين يتعلق الأمر بقوى التحرر والمقاومة، وإنما هي مساحات تلاق وتلامس بين المصالح والمسارات وأدوات السياسة الخارجية التي تفرض لعب بعض الأدوار تحت سقف محددة مسبقا.
رابعا، أوراق القوة. لم يفد الفصائل السورية كل ما قدمته من تنازلات ميدانية وسياسية طمعا في الدعم الدولي والإقليمي بل أثبتت التطورات أنها حصلت على دعم أكبر حين كانت أقل مرونة ولكن أصلب في الميدان، وهو درس مهم وبليغ – ومتكرر في أكثر من بلد وقضية – حول أهمية زيادة أوراق القوة بكل صورها سيما القوة العسكرية والإنجازات الميدانية التي تأتي بالمكاسب السياسية وليس العكس.
خامسا، قوانين فض النزاعات. قدم صمويل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات” نموذجا تفسيريا حول كيفية فض النزاعات المحلية المسلحة حال تحولها إلى حرب بالوكالة تتدخل فيها قوى إقليمية وعالمية، مقدما أمثلة واضحة الدلالة من عدة صراعات في مقدمتها حرب البوسنة والهرسك. ورغم أن الرجل كان يتحدث عن “صراعات حدود الصدام الحضاري” وفق توصيفه في الأساس، إلا أن نموذجه قابل للتطبيق في كل صراع تتدخل فيه القوى الخارجية.
ولعل من أهم استخلاصات هذا النموذج أن الدول والقوى الداعمة (وليس العدوة) هي الأقدر على إنهاء النزاع بالضغط – المباشر أو غير المباشر – على الطرف الذي تدعمه وأن النزاعات المسلحة تنتهي في الأغلب حين يتفق “الكبار” على تسويات وصفقات تحفظ مصالحهم ولا يبقى للاعبين المحليين إلا الرضى والانصياع.
سادسا، التعاون لا التبعية. بناء على كل ما تقدم، ينبغي لكل حركة تحرر أو مقاومة أن تبني تحالفاتها و/أو علاقاتها على مبدأ التعاون والندية، بامتلاك رؤية واضحة وأوراق قوة وخطط وبدائل، وأيضا من خلال تنويع مصادر الدعم بحيث لا تلقي كل بيضها في سلة واحدة مما يمنحها مرونة ويفتح لها مساحات واسعة من المناورة ومقاومة الضغوط وبالتالي إمكانية الاستمرار والنجاح.
لا تنطبق هذه الاستخلاصات على كل فواعل المشهد السوري المحليين والإقليميين بالضرورة (على الأقل ليس بنفس الدرجة) وقد يكون لكل منها استثناء هنا أو تفرد هناك، لكنها تبقى خطوطا عامة ينبغي الاستفادة منها، سيما في ظل حالة السيولة الشديدة والتقلبات العميقة في التحالفات والمصالح والسياسات والمواقف لدى مختلف الأطراف في المنطقة.
ولئن لم يشهد التاريخ حركة مقاومة أو تحرر وطني استطاعت الاستغناء عن الدعم الخارجي، إلا أن النماذج التاريخية والأمثلة التي نعايشها اليوم تشير بوضوح إلى ضرورة ترشيد هذا الدعم وتأطيره وتنظيمه حتى لا تنقلب الفائدة المتوخاة إلى ضرر أو الاستفادة إلى تبعية.
هذه الدروس التي دفعنا ثمنها من دمائنا وأوطاننا وشعوبنا وشيء من مستقبلنا تستحق جهدا كبيرا ومعمقا في تحليلها ودراستها والاستفادة منها حتى لا تتكرر في جغرافيا أو قضية أخرى بنفس الطريقة أو حتى بأسلوب مغاير.
المصدر : عربي 21