قبل اكتمال عملية إخلاء واقتلاع سكان شرق حلب، وقبل الإعلان، رسميا، عن بسط السيطرة على كامل المدينة من ترويكا روسيا وإيران والنظام السوري، اجتمعت في موسكو ترويكا أخرى هي الترويكا الروسية – الإيرانية – التركية من أجل بلورة الحل السياسي المنشود في سوريا وضمان تنفيذه. وبالرغم من زخم الدور الروسي بعد “الإنجاز الحلبي” يحق التساؤل عن فرص نجاح الثلاثي الجديد بعد فشل الثنائي الأميركي – الروسي الذي أدار المحنة السورية اعتبارا من العام 2012.
وفق منطق الوقائع الجديدة التي جرى فرضها على الأرض، يأمل الكرملين في أن يجعل من “إعلان موسكو” البديل عن وثيقة جنيف وتسويق ذلك لدى إدارة دونالد ترامب. لكن النجاح ليس مضمونا بدءا مع شريكيْ الترويكا لأن الأولويات والمصالح عند القوتين الإقليميتين تختلف وتتباعد، ولأن التجاذبات الداخلية والإقليمية والدولية ليست بطور الاختفاء كي يبدأ مشوار الخلاص السوري من موسكو أو الأستانة.
اشتهرت عبارة الترويكا سياسيا في لبنان ما بعد اتفاق الطائف (1990 – 2005) ولم تترك في الذاكرة أثرا محمودا، وكانت ترجمة لتقاسم نفوذ أو محاصصة تحت إشراف الوصاية السورية. لكن الاستخدام غير السياسي لهذه العبارة يأتي من بلاد تولستوي، إذ أن الترويكا الروسية تعد واحدة من أهم وأشهر العربات التي تجرّها ثلاثة أحصنة، لكنها غابت عن شوارع المدن الروسية مع تطور المدينة الحديثة وازدحام الطرق بالسيارات، وتظهر الترويكا الروسية بين الفينة والأخرى لأداء بعضِ العروض والمسابقات.
وها هي تظهر الآن على صعيد سياسي وتراهن من خلالها موسكو على تطويع الحالة السورية من خلال حصانها المتحكم بالميدان في ظل تسليم أو عجز دولي، لكنه يحتاج في اندفاعة عربته لجوادين؛ “الجواد” الإيراني شريكا في العمل العسكري، و“الجواد” التركي شريكا في إخراج الحل السياسي على طريقة الروليت الروسية طراز القرن الحادي والعشرين منذ سبتمبر 2015 (تعميم أسلوب غروزني في حل النزاعات وغلبة وجهة النظر الروسية وفق ما افتخر به المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة عند إخضاع حلب).
الوقت من ذهب عند القيصر الجديد فلاديمير بوتين خريج المدرسة السوفيتية والمتشبع بروح روسيا “بطرس الأكبر” و”كاترينا الثانية” في استراتيجيته وتكتيكاته لتركيز موقع روسيا ساخرا من الغرب وعقوباته، لأن الوطنية العميقة عند الروس كفيلة بتحديهم للصعاب وتغلبهم على الشدائد.
وهكذا بعد منعطف حلب (خطوة مهمة جدا نحو حل النزاع السوري حسب آخر تصريحاته) انبرى بوتين انطلاقا من طوكيو للدعوة إلى مباحثات بين النظام السوري والمعارضة في الأستانة وبالتنسيق مع تركيا. وبسرعة تحركت الماكينة الدبلوماسية الروسية وعجّلت بانعقاد الاجتماع الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني في موسكو في العشرين من ديسمبر قبل أسبوع على موعده الأصلي. ولم يؤثر اغتيال السفير الروسي في أنقرة، عشية هذا اللقاء، على عقده وإنجاحه.
على عكس الضحكات العريضة بين محمد جواد ظريف وجون كيري، أو على عكس تواطؤ النظرات بين المايسترو كيري والعراب سيرجي لافروف، كان التجهّم سيد الموقف بين التركي مولود جاويش أوغلو ونظيريه الروسي والإيراني اللذين يتنافسان في حلبة الدهاء الدبلوماسي. بيد أن الواقعية السياسية المتمخضة عن الغلبة الاستراتيجية الروسية أتاحت ولادة إعلان موسكو الذي يبشر بتعميم وقف إطلاق النار وإنهاء مفاعيل الحكم الانتقالي وفق جنيف1 (يونيو 2012) وهذا يعني عمليا صفقة تنسى فيها إيران ومنظومة الأسد – على الأقل مؤقتا- استكمال العمل العسكري، مقابل تسليم تركيا ببقاء بشار الأسد حتى العام 2021.
يجدر التذكير أنه منذ اعتماد وثيقة جنيف حول نقل السلطة إلى هيئة حكم كاملة الصلاحيات، استندت موسكو إلى الغموض غير البناء في تفسيرها، ممّا عطلها عمليا، وهي تحاول عبر إعلان موسكو طي صفحتها، وإبعاد كل الشركاء الآخرين في العملية السياسية من منظمة الأمم المتحدة إلى الدول الأوروبية والعربية. وكل هذا الجموح للحصان الروسي يفترض أن إدارة دونالد ترامب لن يكون لها حول ولا قوة في معارضة الإمساك الروسي بالورقة السورية.
لكن إلقاء نظرة على مسارح التوتر الأخرى بين روسيا وحلف شمال الأطلسي وقرارات بوتين الأخيرة حيال تعزيز قدراته النووية والصاروخية، بالإضافة إلى حربه الإلكترونية في الانتخابات الأميركية والشكوك بشأن سعيه للتدخل في الانتخابات الأوروبية خاصة في فرنسا وألمانيا، يدلل على أن عقد الصفقة بين بوتين وترامب- إذا حصلت- ستأخذ حيّزا كبيرا من الوقت، ومن هنا تنكبّ موسكو على تحصين انتدابها المفروض على سوريا.
حسب خارطة الطريق الروسية، يتوجب تلازم انعقاد اجتماعات الأستانة منتصف يناير 2017 مع وقف شامل لإطلاق النار، وتتبع ذلك إقامة حكومة وحدة وطنية تكرس تأهيل أو إعادة تأهيل النظام. تعتقد موسكو أن الحراك الثوري السوري جرى دفنه تحت ركام حلب، وتعتبر أن التغريبة السورية وجلجلة الألم (مع السلسلة الطويلة من الشهداء والمعذبين والمبعدين والمجوعين والمحاصرين) ستجعلان القبول بالأمر الواقع لا مناص منه.
لكن أمام الرهانات الروسية سلسلة من العقبات الكأداء، الأولى لدى عند إيران والنظام السوري اللذين لم يسلما عمليا بأي حل واقعي وعادل ينقذ الدولة السورية والإنسان في سوريا، والثانية هي العقبات المسألة الكردية وعدم وجود سيناريو عملي لمقاربتها، والثالثة هي العقبات الاستهتار بالعامل العربي في الحل السوري.
وعلى صعيد إقليمي أوسع، ونظرا لتجاهل أو تواطؤ إدارة باراك أوباما الـراحلة، تمكنت موسكو حتى الآن من التحكم في تقاطعات مع إيران (تنسيق استراتيجي) وتركيا (تطويع وتبادل مصالح) وإسرائيل (تنسيق سياسي) كي تحرك بيادقها في سوريا وشرق المتوسط.
وفي ما يتعدى شكل الحل السوري أو قابليته للتنفيذ، تنطوي لعبة الشطرنج الدولية في 2017 على الكثير من المجهول والألغاز وربما تصطدم فيها الاندفاعة الروسية في سوريا بمسألة تحديد منطقة النفوذ الموالية لإيران بالقرب من الحدود مع إسرائيل، وفي دور الأكراد من منبج إلى الرقة، من دون إهمال مفاجآت قد لا تكون في حسبان قائد الترويكا الروسية.
المصدر : العرب