في مشهدٍ سوريالي، خرج القيادي في جماعة الإخوان المسلمين في سوريّة، حسام غضبان، بتصريحات إشكالية، قال فيها إن الثورة السوريّة (لم تنتصر حتى الآن) هي امتداد لـ “ثورة الثمانينيات”، في إشارة واضحة لحقبة الصراع المسلح بين الجماعة والنظام في سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته. من غير المفيد تفنيد الكلام السابق، وكل ما صدر بعده من توضيحات وترقيعات، لسبب وحيد خلته غائبا عن قيادة الجماعة، أو غيّبته بحكم الظروف الراهنة والتطورات الأخيرة.
فالإخوان المسلمون، أو بعض قادتهم المؤثرين، حاولوا، في العقود الماضية، نفي مسؤوليتهم الكاملة عن تلك الهبة المسلحة، أو حاولوا الإيحاء بأن تنظيم الطليعة المقاتلة جرّهم إلى مواجهةٍ لم يكونوا يريدونها مع النظام، وأن إعلان ثورتهم الإسلامية عام 1980 جاء ردة فعل، غير محسوبة العواقب، على قمع النظام وإصداره القانون 41 الذي يعاقب بإعدام من ينتسب إليها. ضمن هذه النبرة التبريرية، قرأنا مراجعات الجماعة وبياناتها اللاحقة، ابتداءً من تأييد الانتفاضة الكردية عام 2004، مرورا بتعليق نشاطها المعارض بعد حرب غزة 2009، وفض تحالف براغماتي مع عبد الحليم خدام نائب الرئيس السابق حافظ الأسد، وصولا إلى وثيقة الدولة المدنيّة عام 2012 والتي سمّوها “عهد وميثاق”.
من الواجب، في هذا السياق، تذكير قيادة الجماعة بأن النظام السوري حاول، بعد اندلاع الاحتجاجات في سورية منتصف مارس/ آذار 2011، استحضار “تمرّد” الإخوان المسلمين المسلح، في توصيف أزمته الراهنة، بغية اللعب على الوتر الطائفي، واستنهاض الهويات الفرعية، لجذب الأقليات الطائفية في سورية، قبل السير في آليات المعالجة نفسها التي طبقها في حماة عام 1982، ولكن على نطاق أوسع. ومن المفيد أيضًا، الإشارة إلى أن “الإخوان المسلمين” لم يطلقوا الثورة في سوريّة، بل التحقوا بها. وهم أنفسهم أول من تنبه إلى رياح التغيير القادمة من تونس ومصر، وبعثوا، عبر وسطاء، رسالة إلى بشار الأسد تحذّره من ثورة قادمة في سورية. لن يطلقها “الإخوان”، كما أخبرني المراقب العام للإخوان السابق، علي صدر الدين البيانوني، في شهادةٍ أجريتها معه في الدوحة قبل أعوام، لكنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي إذا انطلقت. هذا ما حصل بالفعل بعد اندلاع الاحتجاجات، ولكن بالتدريج، مراعاة لمواقف دول وحكومات تحتضنهم، وفي الوقت نفسه، كان لديها علاقة وثيقة مع النظام السوري.
حارت الجماعة، كغيرها من قوى المعارضة التقليدية، في انطلاق الثورة، وفي جيلٍ أطلقها تربى خارج المنظومة الفكرية للنظام، وفي الوقت عينه، لا يعرف عن قيادات المعارضة أكثر مما يعرف عن لاعبي منتخب كوستاريكا.
لذلك، كان من الصعب على “الإخوان” إيجاد موطئ قدم راسخة في مظاهراتها، خصوصاً وأنهم أغلقوا باب الانتساب داخل سورية، لتجنيب أنصارهم خطر موتٍ مؤكد. ومع أن انتقال الثورة إلى العمل المسلح فتح لهم الباب، لإعادة تفعيل نشاطهم في الداخل، بعد عودة بعض المبعدين، إلا أن نشاطهم ظل، في السنوات الثلاث الأولى من الثورة، محدودًا جدًا، بخلاف ما تأملوه. فالدروع (تنظيمات عسكرية مناطقية) التي أنشأوها فشلت في تحقيق هدفها، والتجارب السياسية الارتجالية التي حاولوا تعميمها (حزب النهضة مثلا) لم يسمع بها أحد إلا بضعة عشرات من الشباب المنتسبين في إدلب. ولم يكن الوقت متاحا أمام السوريين من ذوي التوجه الإسلامي، لقراءة كتب حسن البنا وسيد قطب وعلي الصلابي التي أدخلوها في شاحنات ووزّعوها في الداخل، فضاعت مساعيهم التربوية، ولم تستطع الصمود في مناخٍ أنعش فيه السلاح الفكر السلفي الذي لا يرى في الجماعة إلا انحرافاتها (هرطقاتها). وبتوصيفٍ مختصر، فشلت محاولات “الإخوان” لإعادة إعادة التموضع داخلياً، باستثناء نجاحات محدودة لـ “هيئة حماية المدنيين”، وهزمت الجماعة أمام حركاتٍ جديدةٍ، نشأت على أنقاض تجربة الثمانينيات، مثل حركة أحرار الشام وغيرها.
وأمام هذا التحدّي، اجترحت الجماعة استراتيجية جديدة، ابتداء من عام 2014، بإنشاء تنظيمات عسكريّة، أو تطعيم الهيئات المدنية والإغاثية بجمعياتٍ وشخصياتٍ لا تعلن بالضرورة انتماءها إلى الإخوان، أو غير مضطرة إلى الالتزام بخطها. حقق هذا التوجه نجاحاً ملحوظًا مع فيلق الشام (أحد فصائل جيش الفتح)، والذي غدا، أخيراً، ذراعها العسكرية في سورية، وكذلك وفر لها حضوراً واسعاً على مستوى المجالس المحليّة في المحافظات، نظرا لأن الجماعة كانت الجهة الوحيدة القادرة على تأمين دعم مستمر، ومن دون انقطاع، الأمر الذي جعلها قوةً مؤثرةً فاعلةً في محافظات الشمال السوري، بيد أن هذا الطارئ أنتج، فيما يبدو، حساباتٍ جديدة للجماعة، فزادت مؤتمراتها الصحافية وتصريحاتها المنفردة، بعد أن كانت تصيغ مواقفها ضمن أجسام المعارضة التمثيلية التي توجد ضمنها، وراحت تغرّد خارج الخطاب الوطني الذي طالما ردّد أن هذه الثورة العظيمة ثورة وطنية لكل السوريين، تنشد الحرية والكرامة ضد نظام استبدادي يمارس سياسات طائفية.
برّر مناصرو “الإخوان” المفردات الجديدة في خطاب الحركة بأنها مستقاةٌ من الداخل، في إشارة إلى معركة حلب التي سمّاها جيش الفتح “إبراهيم اليوسف”، أو غزوة حماة التي سمّاها جند الأقصى “مروان حديد”، بينما سماها جيش العزة “في سبيل الله نمضي”.
كما لاموا منتقديهم بتذكيرهم بآلام مجزرة حماة ومظلومية الجماعة قتلًا ونفيًا وتشريدًا في العقود الماضية. يصحّ ذلك نظريًا، لكن هذا الخطاب قد يُفهم، إذا ما صدر عن جماعات سلفية وإسلامية ما تزال تعرّف الصراع على أساس طائفي، خصوصاً وأنها تقاتل مليشيات طائفية شيعية، جلبت من شتى أصقاع المعمورة، في حين يصعب فهمه أو قبوله من جماعةٍ أعطت السوريين عهدًا بإقامة دولةٍ مدنيةٍ لجميع المواطنين، وتأسيس حزب سياسي غير ديني أو طائفي. وإذا كانت الجماعات الجهادية التي يستقي منها “الإخوان” اليوم مفرداتٍ خطابيةً قد دخلت، وما تزال، في مراجعاتٍ على مستوى الخطاب والممارسة، قادت إلى تغيير إيجابي، مقارنة بزمان نشأتها، فمن المحزن أن يرتدّ “الإخوان” عن مراجعاتهم بجرّة قلم.
قد ترى الجماعة، خصوصاً بعد التدخل التركي في شمال سورية، أن الوقت حان لتتقدّم وتتصدّر الثورة، قبل إنضاج أية تسويةٍ دوليّةٍ، بما يضمن لها مكانة وموقعا في سورية المستقبل، بيد أن ما سبق، وعلى الرغم من أنه خطأ كبير، يمكن الوصول إليه بطرق أخرى، تجمع السوريين لا تفرّقهم. يبقى، أخيراً، أن جماعة الإخوان المسلمين قوة وطنية سوريّة، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن وجودها في مستقبل سورية ضروري وحيوي. وحبذا لو تلتفت قيادة الجماعة إلى كثير من شبابها الرائع، ممن غادروها، أو أخذوا مسافةً عن قياداتها الكهول، فأولئك الشباب، بحسهم الوطني الجامع، هم مستقبلها الحقيقي.
المصدر : العربي الجديد