في ريف دير الزور، تتكاثر المشاهد السوريالية، ولكن الدامية والمبتذلة في آن معاً، والتي تعكس الكثير من عناصر واقع الحال في سوريا المعاصرة كما باتت اليوم؛ بعد أن دشّن نظام بشار الأسد سيرورات التدمير العشوائي، والإبادة المنظمة، والتطهير الديمغرافي المناطقي، وارتكاب جرائم الحرب بأسلحة لا تستثني الغازات والكيمياء؛ قبيل تسليم مقدّرات سوريا إلى إيران وروسيا، وغزاة وميليشيات مذهبية وجهادية من كلّ حدب وصوب.
وهذا ريف صار شهيداً، بصفة يومية مفتوحة، منذ أواخر العام 2013، حين تمكن «الجيش السوري الحرّ» من دحر قوّات النظام في نصف أراضي المحافظة تقريباً؛ ثمّ وقع اقتتال داخلي في صفوف «المحررين» أنفسهم، أتاح لميليشيات «داعش» أن تسيطر على الأرض، وتصبح الخصم الوحيد في وجه النظام، فينقلب أبناء المحافظة المدنيون إلى ضحايا لا حول لهم ولا طول، بين فكّي كماشة دامية، على طرفَيْ المواجهة. وبدل أن تكون آبار النفط في المحافظة نعمة على أبنائها (وهذا لم يحدث قطّ، أصلاً، لأنّ سياسات النهب والفساد كانت، وظلت، سمة النظام)؛ فإنها انقلبت إلى نقمة، حين شكّلت واحداً من أهمّ منابع تغذية «داعش» مالياً؛ وها أنها، اليوم، تضاعف النقمة إلى البلوى، جرّاء تكالب القوى الخارجية على المنطقة، طمعاً في ثرواتها.
تعلن قوات النظام والميليشيات الحليفة أنها تقدمت نحو فكّ الحصار عن مطار دير الزور، المحاصر منذ ثلاث سنوات، وانسحاب «داعش»، التي كانت هي الطرف المحاصِر، فيُعزى «الانتصار» إلى ما تبقى من وحدات موالية، مثل «الحرس الجمهوري» و«قوّات النمر».
كأنّ هذا التطوّر لم يكتمل إلا تحت قصف شديد، معظمه همجي ومسعور يستهدف المدنيين أولاً، تولت موسكو تنفيذه من الجوّ، ولكن من بارجاتها في مياه المتوسط أيضاً. أو كأنّه ليس تذكيراً جديداً بمبدأ سيرغي لافروف الشهير: لولا تدخل موسكو، لسقطت دمشق!
وأمّا البُعد السوريالي في المشهد، فهو لم يغب عن كلّ ذي بصر وبصيرة: النظام، ومعه روسيا وإيران و«حزب الله»، يعلنون أنهم في حالة حرب لا تُبقي ولا تذر ضدّ «داعش»؛ ولكنّ هذا التحالف ذاته هو الذي فاوض «داعش» على الخروج من عرسال اللبنانية، وضمن نقل مقاتلي التنظيم عبر مناطق سيطرة النظام، وفي قلب الصحراء المكشوفة أمام الطيران الحربي الروسي، إلى… دير الزور، ذاتها، التي فيها يقاتل التحالف «داعش»!
المشهد السوريالي الثاني تكفّل بصناعته أحمد حامد الخبيل (أبو خولة)، قائد ما يُسمى «مجلس دير الزور العسكري»، التابع لـ»قوات سوريا الديمقراطية»؛ حين أعلن أنّ مقاتليه لن يسمحوا لقوات النظام بعبور نهر الفرات. السوريالي هنا أنّ ميليشيات الخبيل سبق لها أن تعاونت مع جيش النظام، عبر اللواء 113، في معارك دير الزور أواخر العام 2013؛ كما قلبت المعاطف على الفور، فتعاونت مع «داعش» ذاتها، فأسند لها التنظيم إدارة حاجز في ظاهر المدينة، أتاح لها تنظيم عمليات التهريب والنهب!
تفصيل سوريالي آخر، ضمن هذا المشهد الثاني، تمثّل في أنّ «قسد» ذاتها، التي تتفاخر اليوم بأنها ستمنع النظام من عبور الفرات، تعاونت مع النظام في عشرات المواقع في شمال وشرق سوريا؛ بل حدث مراراً أنّ هذا التعاون ألزمها بمواجهات مسلحة مع قوى كردية رافضة لهذه العلاقة مع النظام، ومناهضة لسياسات التحالف كما اعتمدها «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«وحدات حماية الشعب». طريف، أيضاً، أنّ التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، راعية «قسد»، كان قد سمح لباصات حسن نصر الله بنقل مقاتلي «داعش»… أنفسهم، الذين تتبجح «عاصفة الجزيرة» بقتالهم!
في غضون هذه المشاهد، وسواها، يواصل الطيران الحربي ارتكاب المجازر الوحشية ضدّ مدنيي المحافظة، ويخلّف عشرات القتلى والجرحى؛ إذْ كيف لسوريالية محتلّيْ سوريا أن تكتمل، دون أن تتلطخ بالدماء!
المصدر : القدس العربي