من نوافذ قصره في جبل المزة، كان بشار الأسد ينظر كل يوم إلى داريا وجارتها معضمية الشام، متلهفا قدوم اللحظة التي سيتخلص فيها من كابوس هاتين المدينتين اللتين أسمعتاه بعد كل اجتماع للثوار فيهما تجديد مبايعتهم على الموت في سبيل الأرض ونيل الحرية. ومن أجل هاتين المدينتين خرجت مئات الاجتماعات بقرار واحد يقضي بوجوب الإبادة الجماعية لسكانها، أما من بقي حياً ولم يسجل على قوائم الكيميائي والبراميل والحصار فعليه المغادرة إلى غير أرضه. هكذا وبدون رادع أفرغت هذه المدن تحت مرأى ومسمع العالم الذي صم آذانه بالطين.
لم تخسر داريا والمعضمية المعركة مع نظام الأسد، فالحرب سجال، وصمودهما لست سنوات تحت مرمى نيران الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري لا يعد انتصارا فحسب، بل يعتبر أسطورة من أساطير الخيال التي ستروى يوما للصغار والكبار عن بطولة شعب أعزل عاش وسط الجحيم وخرج منتصرا، رغم موت الكيميائي ودمار البراميل والصواريخ. ومن المعيب على أبواق النظام التغني بما حدث على أنه انتصار لهم، فكما هو معروف في المثل العربي بأن “الكثرة تغلب الشجاعة”، ونظامهم استقدم كل مرتزقة الأرض من إيران وروسيا والعراق ولبنان لينتصر بهم على الشعب السوري الذي لم ينصره أحد.
لم يجرؤ بشار الأسد على الذهاب إلى داريا، لإعلان نصرة المزعوم، إلا بعد مرور أيام طويلة من إفراغها من سكانها، فما زالت أساطير الـ700 مقاتل حاضرة في ذهنه، وهم الذين ركعوا جحافل الجيوش الجرارة على مدار السنين الأربع الماضية، ومنعوها من دخول المدينة، بسلاح الحق وعزيمة أصحاب الأرض التي لا تلين مهما تكالبت عليها قوى الشر والعدوان.
مخطئ من يظن بأن ما جرى في مدينتي داريا ومعضمية الشام من تهجير قسري؛ فتح فصلا جديدا من فصول الصراع السوري، ولا يربط ذلك بما قاله ماهر الأسد في عام 2011 بأنهم سيعيدون سوريا كما كانت عام 1970، 8 ملايين نسمة. فالسياسة ثابتة، وتشهد عليها قصص السوريين في البحار وحالات النزوح الجماعية في بلدان الجوار؛ والتي صنفت مخيمات السوريين فيها بأنها من كبرى مخيمات العالم.
التهجير بالنكهة الطائفية هو استمرار للتهجير السابق الذي اعتمده نظام الأسد منذ بداية الثورة، بعد استهدافه للمدنيين وتدمير المدن والمنازل فوق رؤوس من فيها، والذي أحدث حالات نزوح جماعي، إلى كل دول العالم، لكن التهجير القسري الجديد بدأت ملامحه بالظهور بعد القصير وتلبيسة في منتصف العام 2013، أي بعد دخول حزب الله وإيران الحرب علانية، ومضى به النظام وأعوانه مطمئنين من جهة المجتمع الدولي الذي آثر الصمت حيال كل جريمة ومجزرة، حتى أن هذا المجتمع وصف داريا بدون خجل على أنها عاصمة “البراميل”.
وفق قاموس القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، فإن التهجير القسري هو ممارسة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية، بهدف إخلاء أراضٍ معينة، وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلا عنها. ويندرج هذا ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدولية، المتعلق بهذا الشأن؛ جرّم عمليات الترحيل أو النقل القسري، وتنص مواده على أن إبعاد السكان أو النقل القسري، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من المدنيين، يشكل جريمة ضد الإنسانية. وبموجب المواد 6 و7 و8 من نظام روما الأساسي، فإن “الإبعاد أو النقل غير المشروعين” يشكلان جريمة حرب.
فلسطين، والعراق، واليمن، ومالي، والهند، والشيشان، بعض الأمثلة من البلدان التي جرى فيها تهجير قسري، وما زال العالم منذ ذلك الحين يحمل وزر سكوته وصمته عن هذه الجرائم، وسيحمل أيضاً وزر تهجير السوريين عن بلادهم، والسماح للعصابات الطائفية باغتصاب أرضهم ونهب بيوتهم.
قد يكون التهجير الطائفي الذي فرض على أهالي داريا ومعضمية الشام، سببا في قطع “شعرة معاوية” الباقية في أمل السوريين بالتعايش المشترك، فمشروع التغيير الديمغرافي الذي خطط له في طهران واتخذ في موسكو، نفذه بالنهاية من يدعون بأنهم سوريون. ولقد حكم على الصغار قبل الكبار والنساء قبل الرجال، مغادرة مناطقهم قسراً لأنها محيطة بحصن الأسد في دمشق وتشكل خطرا كبيرا عليه.
سيعود المهجرون إلى ديارهم طال الزمان أو قصر، ولن يبقى بشار الأسد ونظامه القاتل في سدة حكم سوريا، فهذه الأفعال تؤكد مجدداً حتمية رحيل هذا الطاغية المتمترس في حي المهاجرين والذي لا يستطيع مغادرته إلى أي مكان آخر داخل دمشق إلا بحماية إيرانية وروسية.
المصدر : عربي 21