ينتظر مرضى في مجموعات، أن يحين دورهم الواحد تلو الآخر للحلاقة والاستحمام داخل مستشفى للأمراض النفسية والعقلية، هو الوحيد من نوعه في مناطق سيطرة الثوار في شمال سوريا، ويشهد منذ اندلاع الحرب ازدياداً في عدد رواده.
وتسببت الحرب التي تشهدها سوريا، باضطرابات نفسية وحالات اكتئاب وصدمة لدى مختلف الفئات من أطفال وشباب وعجزة، جراء التجارب التي يعيشونها وهول المشاهد التي تعرضوا لها، وفق ما يقول أطباء ومتخصصون.
ويوؤي المستشفى، وهو عبارة عن مبنى حجري من ثلاثة طوابق في مدينة اعزاز في شمال حلب، 139 مريضاً، بينهم 32 امرأة.
يتقاسم الرجال ويرتدي عدداً منهم قمصاناً زرقاء مساحة واسعة من الطابق الثاني، وإلى جانب المرضى المقيمين فيه، يعاين المستشفى يومياً قرابة 40 مريضاً.
في إحدى القاعات، يصرخ رجل بغضب ويغني ثان بصوت مرتفع ويفتح فمه حتى يظهر كامل فكه العلوي الخالي من الأسنان. ويقف ثالث قرب صورة قلب مرسوم على الحائط والى جانبه كلمة “حب” بالانكليزية.
ويبدو الوضع أكثر هدوءاً في الطابق الأول المخصص لنساء من مختلف الأعمار، يرتدي معظمهن زياً موحداً ابيض اللون تزينه ورود رمادية. وبالقرب منهن مريضة يداها مكبلتان بسرير تتمدد عليه في إحدى زوايا الغرفة.
ويعد هذا المستشفى الذي يضم باحة كبيرة يخرج إليها المرضى لممارسة الرياضة وقضاء الوقت، الوحيد المتخصص بالأمراض النفسية والعقلية في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة في شمال سوريا.
ويوضح الطبيب النفسي ضرار الصبح (46 عاماً) المشرف على علاج المرضى، أن أكثر الحالات التي يعاينها “ناتجة عن ظروف الحرب”.
ويقول: “غالبية المرضى مصابون باضطرابات ما بعد الصدمة، والتأقلم، والقلق، وثنائي القطب، بالإضافة إلى الاكتئاب والذهان (انفصام الشخصية)”.
ومن بين الحالات المؤثرة التي يعاينها هذا الطبيب، فتاة تبلغ من العمر 17 عاماً ترتاد المستشفى كل أسبوعين، يقول إنها “رأت طفلاً صغيراً مقتولاً وتأكله الحيوانات” قرب منزلها، و”تعرضت للصدمة وفقدت النطق وباتت لا تنام ولا تأكل (..) وتحاول تجنب كل شيء”.
ويتحدث الطبيب كذلك عن رجل في مطلع الخمسينات من عمره، قام بدفن زوجته وأولاده الستة بعد قصف استهدف منزله في مدينة الرقة نهاية العام 2016.
ويشرح أن المريض الذي يراجعه منذ أشهر، “يعاني راهناً من صعوبة في النوم وتذكر الحادث، ودوماً تأتيه الأفكار على شكل كوابيس”.
وإذا كانت بعض الاضطرابات موجودة قبل الحرب، إلا أن ثمة أمراض أخرى فاقمتها الحرب المستمرة منذ أكثر من ست سنوات.
ويؤكد الطبيب وهو يقلب صفحات دفتر دوّن عليه ملاحظات، وأسماء، أن “عدد المرضى ازداد منذ بداية الحرب، خصوصاً الذين يعانون من الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة واضطرابات التأقلم”.
وفي هذا الصدد، يشرح الممرض محمد منذر (35 عاماً)، أنه مع انطلاق الثورة في عام 2011، “كان يأتينا مرضى معتقلين في فروع الأمن، يعانون أمراضاً نفسية كالرهاب، نتيجة تعذيبهم وضربهم خصوصاً على الرأس”.
ويوضح أنه مع تحول الاحتجاجات إلى حرب أودت بحياة أكثر من 330 ألف شخص، “باتت تأتينا حالات لا تستطيع تحمل صوت الطائرات الحربية”.
امكانات محدودة
قبل مدينة أعزاز، كان مقر المستشفى الذي بدأ عمله في العام 2011 في حي مساكن هنانو في مدينة حلب.
ويوضح المشرف الإداري على المستشفى محي الدين عثمان، أنه مع اندلاع المعارك بين فصائل الثوار وقوات الأسد في حلب بدءاً من العام 2012، “تعرض المستشفى للقصف، ما تسبب بإصابة أحد الممرضين”.
واضطر الطاقم الطبي مع اشتداد حدة المعارك في الحي، وفق محي الدين إلى ترك المستشفى، ما أدى إلى “تسرب جزء من المرضى نتيجة ذلك إلى الشوارع”.
وتولى عدد من أهالي المنطقة إعادتهم إلى المستشفى، وإبلاغ منظمة “أطباء عبر القارات- تركيا” التي تعمل في المجالين الإغاثي والطبي.
ووافقت الأخيرة على دعم المستشفى، وتولت نقل المرضى إلى غرب محافظة حلب، حيث بقوا لأسبوعين قبل وصولهم إلى اعزاز في العام 2013.
الطاقم الطبي “مرهق”
رغم الإمكانيات المحدودة والنقص في الأدوية، والاعتماد على المساعدات ومساهمات منظمة الصحة العالمية أحياناً، أو اللجوء إلى بدائل في السوق المحلي، أو في تركيا المجاورة، يناضل الطاقم الطبي لمساعدة بعض الحالات وخصوصاً أولئك الذين يعانون من اكتئاب شديد.
ويتذكر الصبح مريضاً كان يرتاد المستشفى بشكل دوري. ويقول “سألته في إحدى المرات عن الانتحار وأجاب أنه لا يفكر في ذلك، بعد 15 يوماً أقدم على الانتحار بمسدس”.
ومع ازدياد أعراض الأمراض النفسية جراء الحرب، يحاول الطاقم الطبي وفق منذر “نشر الوعي في محيطنا (…) والتوضيح أن الأمراض النفسية شأنها شأن الأمراض العضوية”.
ويشرح الصبح انه جراء الحرب بات هناك الكثير من الحالات النفسية التي تحتاج إلى العلاج والمتابعة.
ويقول “وجود مركز علاجي في المنطقة هو ناحية إيجابية” مضيفاً “هناك إقبال على المركز من السكان ولم يعد الأمر يُعتبر علامة ضعف”.
وطن اف ام / أ ف ب