توهّم كثيرون أن الخيار العسكري يمكن أن يحسم الوضع في سوريا. غرق أطراف الحرب في حمامات دماء ولم تتبدد أوهامهم. ارتسمت بالحديد والنار حدود العلاقات بين مكونات المجتمعات السورية. كانت الجغرافيا – ولا تزال – مجرد تفصيل في السياسات الكبرى للشرق الأوسط. سوريا كانت – ولا تزال – مجرد خرافة، بل جملة خرافات.
لا يبعث هذا الاستنتاج إلا على مزيد من الحزن في هذا العالم العربي الحزين. سوريا هي الأشد حزناً. تأملوا جيداً منطق المندوب السوري الدائم لدى الأمم المتحدة السفير بشار الجعفري. هذا هو وزير الخارجية الحقيقي في سوريا الرئيس بشار الأسد.
هو رسول البعثيين السوريين، وبالنسبة اليهم “ما ينطق عن الهوى”. سوّق ببراعة تاجر دمشقي حتى البضاعة الكاسدة وخرافات سوريا الطبيعية وما “انسلخ” منها. لا يزال يأمل في أن يجد في أروقة المجتمع الدولي من يشتري. في عقيدته أن فلسطين كانت جزءاً من سورياه. الأردن ولبنان كانا جزءاً من سورياه. الإسكندرونة وأنطاكيا وكيليكيا كانت جزءاً من سورياه. حتى الموصل “سلخت من الجسد السوري الكبير”. كأنه استرجع الجولان!
أليست هذه بعض الخرافات في سوريا؟
ساهم هذا المنطق البعثي في ما آلت اليه سوريا منذ أكثر من خمس سنوات. طحنت الحرب نسيج المجتمعات السورية. لم يعد هناك معنى للدولة السورية التي رسمها الإستعمار للقبائل والعشائر والمجتمعات الحضرية والريفية في الشرق الأوسط. لم ينفع أصلاً أن المتناحرين صبّوا لعناتهم على ديبلوماسيين أحدهما فرنسي هو فرنسوا جورج بيكو والآخر بريطاني هو السير مارك سايكس لأنهما جرّا قلميهما في هذا “الجسد العربي المريض” لتقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية المنهارة. روسيا كانت شاهدة.
مرّ قرن على اتفاق سايكس – بيكو الذي كان جزءاً لا يتجزأ من نشوء الدول العربية الحديثة. سوريا التي كانت قبله ليست إلا مجرد تعبير فضفاض عن منطقة وليس عن كيان. سوريا تلك كانت منطقة جغرافية كشبه الجزيرة العربية، أو حوض النيل، أو بلاد ما بين النهرين، أو حتى بلاد الشام.
وضعت الحرب سوريا مجدداً على المشرحة. انتهت أو تكاد تنتهي خرافات “النصر” العسكري. لم تعد “الدولة السورية” قادرة على بسط سيطرتها على كيانها الكردي الناشىء ولا على باديتها الشاسعة. صار تعبير “سوريا المفيدة” جزءاً من أدبيات نظام الرئيس بشار الأسد وأنصاره وضحاياه من اللبنانيين والعراقيين والإيرانيين وغيرهم بعدما أخفقت روسيا وجيشها الأحمر في كسر الجبهة الأخرى المدعومة من الأميركيين والغربيين والسعوديين وغيرهم من العرب وسواهم. أليست هذه بعض الأحزان في سوريا؟
بلى، أصعب ما في مواجهتها غياب العقل النقدي. بعض من في هذا العالم العربي، ومنه البعث والمشارب العروبية الأخرى، يعتقد أنه يقبض على الحقيقة مطلقاً. كأنهم أنصاف آلهة. الآخرون المختلفون يصنفون خونة أو متآمريالن أو رجعيين أو في أحسن الأحوال مخطئين.
المصدر : النهار