يقول ألبرتو مانغويل “ثمة كتب معينة تكون بحد ذاتها، مكتبة مثالية”، تمثل مكتبة الكاتب الخاصة جزءا من كيان، وتعتبر شاهدا على تطور مستوى القراءة وتنوّع مصادرها في زمن الكاتب، لذلك فالتخلي عنها أشبه بالسؤال: هل تفضل الموت الآن أم غدا؟، وكثيرا ما يعقبه سؤال: هل تحافظ العائلة على هذا الإرث؟ خاصة وأن هناك شواهد كثيرة في البيئة العربية لمكتبات خاصة ضاعت واختفت؛ فمثلا مكتبة الأديب الراحل طه حسين تعرضت للسرقة من تجار الكتب القديمة حسب كلام زوجته، وفيما رفض الأديب الراحل محمود العقاد بيع مكتبته أثناء حياته ينتهي بها المصير إلى الشارع بعد وفاته، أمّا مكتبة ومقتنيات الكاتبة الراحلة خديجة الجهمي فقد طالها الإهمال ولم تنج حتى من مياه الأمطار. ومازال هناك من يسأل عن مصير مكتبة الأديبة مي زيادة.
تقول الكاتبة الليبية نعيمة العجيلي: تندر حالات التبرع بالكتب والمكتبات في بلادنا رغم أن أبناء الأدباء في أغلب الأحيان -ليس دائما بالتأكيد- لا يحملون ذات الشغف بمكتبات آبائهم أو أمهاتهم. هذا الظن الكتبي ينتج عن التفاخر العائلي بموروث الأديب والذي ينتج مكتبات منزلية ضخمة لكن كتبها تظل مرتعا للغبار أو أرضا خصبة لتلقي رش الملمعات المائية. هناك العديد من الأدباء من ترك إرثا ثقافيا ضخما ولكن عائلته لم تحسن التصرف فيه.
وتختلف التشكيلية الليبية خلود الزوي ابنة الكاتب الراحل محمد الزوي مع هذه الرؤية فتقول: رفضت عرض والدتي بمنح مكتبة والدي الخاصة لجهة ثقافية، وهذا الرفض مفاده أن المكتبة تبقى للإخوة والأحفاد تذكارا جميلا لا بد من المحافظة عليه. وأضافت: يمكن اعتبار هذا الرفض أنانية مني أو أنني أفكر بطريقة عاطفية، لكن هذه المكتبة التي تضم كتبا في التاريخ والفلسفة والأدب كان والدي رحمه الله يحبها وتمثل لي الكثير. نحن عائلة تحب الكتاب وتهتم بالقراءة لذلك لم تجابه المكتبة أيّ إهمال أسري.
المصير المجهول
حول مصير المكتبات الخاصة للكتّاب يتساءل الناقد العراقي حاتم الصكر، لماذا يهدي كاتب ما مكتبته لجهة ثقافية وهو حي؟ فهو يعود إليها كلما جدت له حاجة أو عمل. ذلك يذكرني بإعلان العنوسة مثلا أو اعتزال اللعب في الرياضات المختلفة. مكتبتي جزء حي مني ولسوف تؤول بعد رحيلي لجهة ثقافية لكنني لن أكون فاعلا في الأمر ولا منفعلا به. هذا استطراد شخصي لأني أحمل شظايا من مكتبتي حيث أحل. وكثيرا ما أعود لإهداءات أصدقائي من مؤلفاتهم -حتى الموتى منهم- أتخيل حضورهم عبر خطوط أيديهم وكلماتهم في كتبهم.
ويتابع الصكر: الأسر العربية غالبا ما ترى المكتبات الشخصية عبئا على البيوت، فتتخلص منها حال انتفاء حاجة صاحبها لها. أما سؤالك حول رفض الوارثين إهداء مكتبات ذويهم الراحلين فهي حالات خاصة جدا. ولا أجدها دلالة على حفظ الذكرى أو الوفاء للراحلين. مكتباتهم ستكون أكثر دلالة على وجودهم حين -وحيث- ينتفع بها الدارسون وستكون في ذمة المكان الجديد الذي ستحل فيه. الكثير من الجهات الثقافية لا تتحمس لهذه الإهداءات وتفكر كثيرا في كيفية نقلها ثم حفظها. ويبرز السؤال هل تدمج مع سواها بحسب نوع الكتاب وجنسه الأدبي؟ أم تظل شاخصة وشاهدة وحدها في ركن من المكتبة؟
ويواصل قوله: في بعض دول الغرب تظل المكتبة في مكانها ليراها الزائرون ويروا خلفيات عمل المؤلف والمؤثرات فيه وقراءاته ومصادره. ذلك يخص المشاهير طبعا. ولكن بالإمكان فهرستها مجددا والإشارة داخل الكتاب بختم خاص إلى أنه مهدى من مكتبة الشخص المهدي للمكتبة. أما تكديسها في جناح خاص فهو يحيل إلى التكريم فحسب وربما تظل الفائدة من تلك الكتب محدودة. القيّمون على المراكز الثقافية والمكتبات مدعوون للقيام بتلك المهمة: حفظ حق الجهة التي تقوم بالإهداء، وحق القراء في الاستعارة والقراءة. أما وضع تلك المكتبات في خزانات مغلقة دون عرض، فهو يوحي بأمرين: تدنّي مكانة الكتاب وعملية القراءة في وعينا، وانعدام حماسة المشتغلين في تلك الجهات لإغناء المكتبات وتقدير أصحابها.
ويضيف الناقد حاتم الصكر: جرت لي واقعة في هذا المجال، فقد طلبت مني أسرة شاعر صديق توفي إثر حادث مؤسف في الثمانينات، أن أنقل مكتبته إلى جهة ثقافية في العاصمة. وحين أخبرت مسؤولي المكتبة في تلك الجهة عن سبيل لإيصالها إليهم لأن الأسرة تسكن في محافظة قريبة، كان الرد بأنهم ليس لديهم استعداد لتسلم المكتبة إلا هنا في مقر الجهة الثقافية. ورغم نقلنا للمكتبة وتسليمها لم أجدها مفهرسة بعد ذلك أو معروضة وذلك لمدّة أعوام، ولا أعرف ما حلّ بها من بعد. بل لم أحصل حتى على خطاب شكر للأسرة التي قامت بالإهداء.
وأوضح: يظل إهداء المكتبات الشخصية أمرا مفيدا وتقليدا حضاريا يؤكد الإيثار وفهم أهمية الكتاب والقراءة عامة في حياتنا التي تضيق بها التفاصيل وتتغير فيها الرؤى والتقاليد وتخف مشاعر المواطنة والإحساس بالآخر وكذلك النظرة إلى الكتاب وما يمثله في الفكر والشعور معا. شخصيا أجد مكتبات الجامعات أكثر جدارة بالاحتفاظ بالكتب المهداة والمكتبات الشخصية لأنها أكثر جدوى وحرصا بسبب طبيعتها وحاجة الباحثين والدارسين والطلبة إليها. وفي الأحوال كلها أجد هذه العبارة، المكتبات الشخصية المهداة، جزءا من صورتنا وشخصيتنا وتقاليدنا الثقافية التي ينالها الضعف شيئا فشيئا شأن ما يحل بحياتنا كلها.
وتتحدث الشاعرة الليبية هيام كامل، ابنة الكاتب الراحل كامل عراب عن تجربة العائلة، قائلة: ليست بالمهمة السهلة تلك التي يوكل إليك فيها أن تضع يدك على ذرة من كيان جسده (الوالد) لتحاول لملمته وجمعه وحفظه أيضا كما شاء وكيفما أراد دون أن تلحق به الأذى، أعلم جيدا أن مكتبته كانت أغلى ما قد امتلكه في هذه الحياة وهو الذي كان دائم الإشارة إلى بداياته في اقتناء الكتب. عندما تقوم بفرز مكتبة ضخمة كالتي دأب الراحل كامل عراب على جمعها من كل الأماكن البعيدة والقريبة، قديمة كانت أو لا تزال تحتفظ بحوافها الحادة، مستعملة أو مهملة، فهي كتب ومجلدات في كل الميادين المتاحة، وأعداد من صحف قديمة جدا قد اندثرت ولم يعد لها وجود إلا في مكتبته، التواريخ المكتوبة على أول الصفحات دائما تشي لك بحكاية مازالت تحمل أسماء من تركوها له كتذكار حي، لتتلقفها أنت بين يديك، كلمات كتبها هو لتخاطبك أنت، أذكر أن أكثرها تأثيرا هي تلك التي كان قد كتبها على مقدمة صادف أنها لكتاب تحت عنوان “إلى ولدي” كتب في صفحته الأولى “كل كتاب من كتبي ذرة في كياني.. فالذي تسول له نفسه العبث بهذا الكتاب، فليذكر أنه ينتف إربا من جسمي وكفى. كامل عراب سنة1957”. عندها تتوقف لتسأل نفسك أين وكيف ومن سيخلدها من بعده؟
وتضيف: اتفقت الأسرة والوالدة على منحها لبيت النويجي للثقافة والفنون بالمدينة القديمة في طرابلس (القنصليّة الإنكليزيّة سابقا) عندما تترك هذه الأمانة بعنقك فأنت لست وريثها الوحيد، كنا نفكر بأن يطرق باب مكتبة كامل عراب كل طالبي المعرفة، وكانت معادلة صعبة في الحقيقة، كان هناك العديد من الاختيارات في ذلك الوقت وكنا نبحث عن الطريقة الأنسب ليكون هذا الإرث الثقافي بين يدي الجميع وبالسبل المتاحة دون أن يكون لدينا قلق على أن ما تحويه هذه المكتبة من أشياء نادرة سيلحقه الأذى أو الإهمال أو السرقة، واستقر الرأي الأخير لبيت النويجي الذي ضم مكتبات لرفقاء دربه الكُتَّاب الذين أودعوا أو تبرّعوا بمكتباتهم وهي مكتبة عبدالله القويري، مكتبة الراحل عبدالسلام الجفايري، مكتبة الراحل عبدالقادر أبوهروس، مكتبة فؤاد الكعبازي.
الإهمال المؤسساتي
رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم بمدينة طبرق سليمان حسن زيدان، يتحدث عن تجربة أليمة فيقول: قد يقابل الإهمال الأسري إهمال مجتمعي مؤسساتي وقد شهدت على شيء من هذا. درست المرحلة الابتدائية (1970 – 1976) في مدرسة امساعد الابتدائية، ونصف المرحلة الإعدادية (1977 – 1978) في مدرسة امساعد الإعدادية، وكان في منطقة امساعد (140 كم شرق طبرق) مركز ثقافي نَيِّرٌ فيه صالة ملأى بالكتب من أمهات الكتب، بالإضافة إلى بعض الإصدارات الحديثة وقتها، وكانت متنوعة بين دينية وأدبية: نثرية وشعرية، وفكرية وعلمية، وأيضا صحف ومجلات. كنت أرتاد هذا المركز من حين لآخر حتى ارتبط هذا بذاكرتي عن تلك الفترة في النصف الأول من عقد السبعينات.
ويتابع: في نهاية عقد الثمانينات وبداية التسعينات زرت المكان فوجدت الأماكن المعدة لصفِّ الكتب متهالكة وشبه خاوية، وما فيها من كتب في حالة بليغة البؤس يندى لها جبين الحرف، تشكو إلى كاتبها سوء حالها بل وهوانها على المسؤولين عنها: إدارة واطلاعا واهتماما. أسفت لحالها وحالنا، وسألت عن السبب فقالوا لي: تم الاعتداء على المقر وفتحت صالة الكتب عنوة فأخذ الناس الكتب على أنها حصة شرعية لهم من الغنائم التي وجدوها في المكان من غير أن يكون لكثير منهم أيّ غاية في الاستفادة بمضمونها، أو حتى الاطلاع عليه.
واشتدّ ألمي عندما وجدت في مناسبة اجتماعية جزءا من معجم لسان العرب تمزق صفحاته لاستخدامها في لف قطع الصابون على امتداد مكان المناسبة، وكذلك لمسح الأيدي والكراسي والطاولات وغيرها. طلبت إقفال المكان والحفاظ على القيمة المعنوية له؛ فأوكل المكان لشخص ما لكن بعد موت البذرة حضر الماء. وفي كتابتي لأطروحة الدكتوراه الليبية في جامعة طرابلس (2006 – 2009) عن “المؤثرات التراثية في الإبداع الشعري في ليبيا”، وفي جولات البحث عن مصادر ومراجع للرسالة زرت عددا من المراكز الثقافية في ليبيا وبخاصة القريبة من مدينتي طبرق، ومنها المركز الثقافي الجغبوب (280 كم جنوب طبرق). وحقيقة وجدته مُصانا مرتبا محافظا على محتوياته التي استفدت منها كثيرا لكن سعادتي لم تدم كثيرا إذ بلغني أنّ ما كان فيه من كتب تمّ إخراجه قبل ثلاثة أعوام، ووضعه في صناديق كرتونية فوق السطح.. والصمت ينبئ عمّا ستجود به أمهات الكلام.
المصدر : العرب