في مساء الأول من شباط / فبراير 1924 ، عزفت أوركسترا نيويورك معزوفة بيتهوفن التاسعة في قاعة كارنيجي في مدينة نيويورك ، بقيادة والتر دامروستش . أما أولئك الذين تعذّر حضورهم فقد حالفهم الحظ إذ تم بثّ هذه الفعالية على محطات المذياع.
أصدقائي الأعزاء :
رُغم العمى والصمم ، فإنني أمتلكُ سعادة إخباركم أنني قضيتُ ساعةً عظيمة في الاستماع إلى المذياع وهو يبثُّ سيمفونية بتهوفن التاسعة . وحين أقول أنني ” استمعت ” فأنا لا أعني الكلمة بمعناها الذي يعرفه الجميع ، ولا بالطريقة التي تستمع فيها البشرية جمعاء ، ولستُ واثقة تماماً من قدرتي على ايصال المعنى وتمكينكم من فهم الطريقة التي استخلصتُ فيها كلَّ المتعة من تلك المعزوفة . لقد كانت مفاجآةً كبرى حتّى بالنسبة إلى نفسي . ولقد قرأتُ مرّة في مجلة للمكفوفين عن السعادة التي يجلبها لهم المذياع في كل مكان .
وقد أبهجتني معرفة أنَّ أولئك المكفوفين قد اكتسبوا مصدراً جديداً من مصادر المتعة ، إلا أنني لم أتخيل يوماً أنني سأكون جزءاً في التفيؤ بظلال هذه السعادة . ففي الليلة الماضية ، وحين كانت عائلتي تستمعُ إلى المذياع الذي يبث عزفكم المدهش لمعزوفة ذلك الموسيقار الخالد ، اقترح عليَّ أحدهم أن أضع يدي على سماعة المذياع لأرى إن كان في استطاعتي أن أتلقى أيّ ذبذبات . وبالفعل فقد قام بفكّ الغطاء ، فلمستُ برفقٍ ذلك الغشاء الحساس . وما أدهشني هو اكتشافي أنَّ في وسعي حقاً أن أشعر ، ليس فقط بالذبذبات ، بل أيضاً بالإيقاع الجيّاش ، بضربات الموسيقى وكل بواعثها ! لقد فتنتني كلُّ هذه الاهتزازات وكل تلك الذبذبات المتشابكة والممتزجة . لقد كان في وسعي تماماً أن أميّز بين الأبواق ، ودويّ الطبول ، وعمق نغمات الكمان في تناغمهم المتقن والفاتن . وكيف فاضت لغة الكمان البهيّ حتى طغى على بقية الآلات الأخرى ! وعندما يخرج من بين كلّ هذا التناغم الرائع صوتٌ بشري ، فأنا أدركه على الفور مثل بقية الأصوات .
لقد كنتُ أشعر بالجوقة وهي تنتشي ابتهاجاً ، مأخوذةً بالوجد ، متمايلةً بخفّة مثل شعلةٍ من اللهب ، حتى أنّ قلبي بالكاد بقي ثابتاً وصامداً . و إنَّ أصوات النساء إنّما بدت تجسيداً لكلِّ الأصوات السماوية التي تندفعُ في فيضٍ متناسقٍ من الأصوات الجميلة والملهمة . إنَّ هذه الجوقة الرائعة قد خَفَقَتْ في أناملي بتدفّقاتٍ و وقفاتٍ مؤثرة ومستفزّة للعاطفة . ثم تدفقت كلُّ هذه الآلات وتلك الأصوات مدىً مقدّسا من الذبذبات والاهتزازات لتتلاشى مثل ريح استنفدت كل ذراتها لتنتهي رذاذاً رقيقاً من كلّ تلك النوتات العذبة .
وبالطبع فأنا أعرف أن هذا لم يكن ” سماعاً ” لكن ما أعرفه أكثر هو أن هذه النغمات والانسجام الموسيقى قد حملوا إليّ أجواء من الجمال والجلال . ولقد شعرت _ أو هكذا ظننت _ أن أصوات الطبيعة الرقيقة كلها تغني في يدي ، القصب المتمايل والرياح وخرير الجداول . وكما استمعت مع الظلام واللحون والظلال والأصوات تملأ الغرفة جمعاء ، فلم يكن في وسعي إلا أن أتذكر أن ذلك المؤلف العظيم الذي أراقَ لنا هذا الفيض من العذوبة في العالم كان أصمّاً مثلي . وأنا أندهش من قوة روحه التي لا تخمد إذ خلق من ألمه سعادة للآخرين ، وهناك حيث جلست ، أشعر بيدي سيمفونية رائعة كبحرٍ فاض على شواطئ روحه وروحي .
دعوني أشكركم بشدّة من أجل كل هذه السعادة التي هرولت إلى منزلي وإليّ ، وأريد أن أشكر محطة WEAF الذين أذاعوا هذه السعادة في العالم .
مع أطيب التحيات والأمنيات
المخلصة
هيلين كيلر (كاتبة وناشطة أميركية شهيرة أصيبت بالعمى والصمم في سنٍ مبكرة)
الثاني من فبراير 1924.
ترجمة : أراكة عبد العزيز – خاص لوطن إف أم