تسعى كلٌّ من الولايات المتحدة وروسيا والصين بقوة حالياً، نحو إنتاج جيل جديد من الأسلحة النووية تبدو أصغر وأقل تدميراً من الأسلحة القديمة، وهو ما يهدد بإحياء عصر الحرب الباردة وإشعال صراع التسلح وزعزعة توازن القوى بين الدول عالمياً، بعد مرور أكثر من نصف قرن دون استخدام سلاح نووي.
صعود الصين
الأمر -إلى حد كبير- هو لعبة ديناميكية قديمة تظهر في صورة جديدة، وخاصة مع التراجع الاقتصادي الروسي وصعود الصين بقوة، مع عدم وضوح الرؤية فيما يخص استمرار الولايات المتحدة في عملية المزايدة.. حسب تقرير لصحيفة The New York Times.
من المسؤول؟
يوجه المسؤولون الأميركيون الكثير من اللوم نحو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالقول بأن تعنته أدى إلى تقليص دور معاهدة الحد من التسلح الموقعة في عام 2010، فلم يترك خياراً آخر أمام الولايات المتحدة والصين، في حين يوجه البعض اللوم إلى الصين، والتي تسعى للوصول إلى سبق تكنولوجي عسكري تتفوق من خلاله على الولايات المتحدة، في حين يرى البعض أن الولايات المتحدة هي من تقوم بتصدر مشهد تطوير السلاح النووي تحت مسمى توفير الأمن والقوة لحماية البلاد، وتغفل أنها بذلك تضع الوقود بجانب النار.
وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما، قد اعترف بهذا الخطر الحقيقي في نهاية اجتماع قمة الأمن النووي المنعقدة في واشنطن مطلع هذا الشهر، كما حذر من خطورة إنتاج أسلحة جديدة أكثر فتكاً وإنتاج أنظمة أكثر كفاءة قد تقود إلى تصعيد جديد في سباق التسلح الذي لا ينتهي.
وبالحديث عن أوباما كرئيس جاء إلى الحكم منذ أكثر من سبع سنوات وأعرب عن رغبته في تخليص العالم بأكمله من الأسلحة النووية، فكان ينبغي أن تقدم الولايات المتحدة ذاتها من خلال سياستها ما يضمن الحد من تلك الأسلحة التي قد تساهم في بدء عصر نووي جديد.
قد ندخل في حرب باردة
أحد قدامى محاربي الحرب الباردة في إدارة أوباما، الجنرال جيمس كلابر، وهو مدير وكالة الاستخبارات الوطنية الأميركية، قال للجنة الدفاع بمجلس الشيوخ خلال تقريره السنوي بشأن التهديدات العالمية “قد ندخل في حرب باردة جديدة بطريقة ملفتة”.
الحرب الباردة الجديدة ستكون مختلفة عن التي عاشها كلابر سابقاً، حينما كان ضابط مخابرات في القوات الجوية الأميركية ويعمل على تقدير مخاطر الضربات النووية على المدن والتي تقدر قوتها الانفجارية بالميغا طن.
يستغل خصوم الولايات المتحدة معدلات إنفاقها المتوقع على تحديث وتنشيط برنامجها النووي، والتي تقدر بـ 1 تريليون دولار خلال العقود الثلاثة القادمة، ويضغط الخصوم بهذه الورقة لتطوير أسلحتهم أيضاً.
سحابة إشعاعية
تقوم موسكو حالياً بتطوير صواريخ ضخمة، تحمل رؤوساً نووية صغيرة، في حين يخشى بعض الخبراء من أن تخرق موسكو الاتفاقية الدولية لمنع اختبار الأسلحة النووية بعد تطويرها لهذه الأسلحة الجديدة.
بحسب تقارير إخبارية روسية، تقوم البحرية الروسية أيضاً بتطوير طائرة استطلاع بحري قادرة على نشر سحابة إشعاعية تنتج عن انفجار يحدث تحت الماء ويقضي بشكل تام على المدن التي قد يحدث فيها ويجعلها غير صالحة للعيش من الأساس.
مركبة نووية فضائية
في المقابل، يقوم الجيش الصيني والذي يخضع لسيطرة قوية من الرئيس الصيني شي جينبينغ باختبار مركبة طائرة جديدة تفوق سرعتها سرعة الصوت ولها قدرة على حمل رؤوس نووية، حيث باستطاعتها التحليق في الفضاء مع حمل صاروخ تقليدي بعيد المدى، ولكنها يمكنها أيضاً القيام بمناورات عند حدود الغلاف الجوي وأن تؤدي تلك المناورات بسرعة تزيد عن ميل في الثانية، وهو ما يعني أن جميع أجهزة الدفاع الجوي الصاروخية ستصبح بلا فائدة أمامها.
الوضع الحالي لإدارة أوباما لا يعطيها الفرصة للاعتراض على هذه الأمور، حيث تقوم الولايات المتحدة ذاتها باختبار طائرتها التي تفوق سرعة الصوت، والتي انتهت إحدى تجاربها في عام 2014 بكرة نارية ضخمة في الجو.
بينما من المنتظر أن تتواصل هذه التجارب العام المقبل. وكجزء من عملية التحديث، تخطط الولايات المتحدة لتطوير خمس فئات مختلفة من الأسلحة النووية المزودة بحاملات مختلفة، ما يمثل نقلة كبيرة للترسانة الأميركية تجاه أسلحة نووية ذات حجم أصغر لها قدرة على التخفي وتستطيع إصابة الأهداف بدقة.
وقال جيمس أكتون، المحلل بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، العام الماضي خلال حديثه مع لجنة من الكونغرس لتقييم قوة الصين “نحن نشهد حالياً بداية عصر جديد متسارع من سباق التسلح”.
أسلحة نووية قابلة للاستخدام
أحد المخاوف بشأن هذه الأسلحة الجديدة هي أنها قد تقوض المنطق الذي يقضي بأن تلك الأسلحة تسبب دماراً شاملاً متبادلاً، وأن القناعة السابقة التي تتمثل في أن استخدام السلاح النووي ستؤدي إلى في نهاية المطاف إلى إبادة جميع المقاتلين قد أصبحت محل شك حالياً، وخاصة مع دقة الأسلحة الجديدة وإمكانية تحديد النطاق التدميري لها، ما يثير الكثير من القلق حولها ويجعل استخدامها أمراً مغرياً للغاية.
أحد الأسئلة التي تناولها أوباما أيضاً هي ما إذا كان تخطيط الولايات المتحدة لتطوير أسلحتها النووي قد ساهم في اشتعال تلك المنافسة، أم أن روسيا والصين تستخدمان هذا الأمر كعذر لإنتاج أسلحة ستقومان بإنتاجها في جميع الأحوال؟
اختراق الأقمار الصناعية الأميركية
يرى المحللون أن موسكو وبكين قامتا باختبار أسلحة قادرة على تخطي أنظمة المراقبة والأقمار الصناعية الأميركية، في حال حدوث حرب نووية، ما أدى إلى قيام الولايات المتحدة بالرد على هذا الأمر من خلال إطلاق أقمار صناعية للمراقبة تستطيع التقاط مثل هذه الهجمات والمساعدة في إنهائها.
وفي حديث أوباما في نهاية اجتماع قمة الأمن النووي المنعقدة في واشنطن، اعترف بأن التوترات الحالية كانت الدافع الرئيسي وراء تحديث الترسانة النووية للبلاد، ولكن عند سؤاله عن تصغير الرؤوس النووية وغيرها من التحديثات بهذا الشكل، والتي يمكن أن تمثل أمراً مختلفاً من شأنه أن يقوض سجله الساعي إلى الحد من التسليح، أجاب قائلاً “إنه سؤال مشروع، وأنا حقاً أشعر بالقلق حيال الأمر”.
وأكد مسئولون في البيت الأبيض، أنهم يحاولون الرد على أية مخاوف بشأن التطورات الجديدة، حيث قالت أفريل هاينز، مستشارة الأمن القومي، في لقاء معها “مع تطور التوترات الحالية، نقوم باتخاذ خطوات تجعلنا نتجنب هذا التوتر الحاصل”.
مع وصول أوباما للحكم في عام 2008، كان يسعى بشكل أساسي إلى إعادة بدء علاقات جديدة مع موسكو تقلل من اعتماد الولايات المتحدة على الأسلحة النووية وتقود في النهاية إلى التخلص من تلك الأسلحة بالكامل، وهو أول رئيس يجعل من نزع السلاح النووي حجر أساسٍ في سياسة الدفاع الأميركية، وقد تعاونت روسيا مع أوباما في البداية، حيث وقعت معاهدة جديدة في عام 2010 تقضي بتخفيض قدراتها النووية.
هذا العام، قام أوباما بتقديم عرض جديد، حيث طلب من الجيش الأميركي تقليص عدد الرؤوس النووية على الصواريخ الأرضية إلى رأس واحدة فقط من أصل ثلاثة رؤوس تملكها الولايات المتحدة، في خطوة منه لإثبات أن الهدف من هذه الصواريخ دفاعي فقط ولا تهدف إلى الاعتداء.
لم ترد موسكو بالمثل، وبدلاً من ذلك، قامت بالتحايل حتى على الاتفاقية التي تم توقيعها، وبدأت تطوير جيل جديد من الصواريخ بعيدة المدى الحاملة للرؤوس النووية ليصل عددها إلى أربعة رؤوس، وتواصل حتى اليوم مثل هذه الخطوات حتى مع التزامها بالخطوات الشاملة لتلك المعاهدة.
هل يتحمل بوتين المسؤولية؟
في اجتماع القمة الذي انعقد هذا الشهر، وجه أوباما اللوم لبوتين بشأن قيام الرئاسة في روسيا في 2012 بمنع المزيد من تقليص أعداد هذه الأسلحة، وشدد على أن الكرملين يتطلع إلى القوة العسكرية وليس إلى تحسين العلاقات.
ويليام بيري، وزير الدفاع الأمريكي في عهد الرئيس بيل كلينتون وأحد أكثر الخبراء النوويين نفوذاً في الحزب الديمقراطي، أكد أنه قلِق من قيام موسكو بالانسحاب من معاهدة حظر تجارب الأسلحة النووية الصادرة عام 1996، وبدئها تجربة رؤوس نووية جديدة يتم تفجيرها تحت الأرض. (تلتزم الولايات المتحدة بالمعاهدة، إلا أن مجلس الشيوخ لم يصادق عليها قط منذ توقيعها).
قنبلة روسية جديدة
على مدار العقدين الماضيين، فُرِض على القوى الكبرى حظر غير مشدد على إجراء هذه التجارب النووية، ولكنها كان ركيزة أساسية للحد من الأسلحة النووية.
يقول بيري في لقاء حول مصممي الأسلحة الروسية “أنا واثق من أنهم يعملون على قنبلة جديدة، وأنا واثق من أنهم سيطلبون تجربتها”. وأكد بعد ذلك أن الأمر سيعود لبوتين في نهاية المطاف.
بينما اعتبره دعاة برنامج التحديث النووي الأميركي ردًّا مناسباً لعدوان بوتين خاصة بعد غزوه لشبه جزيرة القرم في 2014.
ويعتقد الخبراء العسكريون بقدرة الأسلحة المصغرة على ردع مجموعة أكبر من المهاجمين المحتملين.
صواريخ لمواجهة العدوان الروسي
ففي فبراير/شباط 2016، دعم البيت الأبيض عملية تطوير صواريخ كروز المتطورة التي يمكن إطلاقها من مسافات بعيدة لتدمير دفاعات العدو.
بينما اعتبر البنتاغون صواريخ كروز وغيرها من الخطط النووية خطوات ضرورية “لمواجهة العدوان الروسي” في شرق أوروبا.
كما تقوم الإدارة الأميركية بتطوير رأس حربي بإمكانه التفوق على بكين بسرعته التي تفوق سرعة الصوت. لكن النسخة الأميركية لن تكون نووية، بل تهدف لصنع سلاح شديد الدقة والسرعة، يمكنه أن يدمر الأهداف الثابتة بالاعتماد على قوة الاصطدام فقط مثل الصاروخ سيلو.
وعلى الرغم من توافق هذا الاتجاه مع تعهدات الرئيس بتخفيض الاعتماد على الأسلحة النووية، إلا أنه قد يحث الخصوم على زيادة الاعتماد على الأسلحة النووية. حيث اعتبر وزير الدفاع الأميركي السابق أن سعي أوباما لتقليص الأسلحة النووية والاعتماد على الأسلحة غير النووية قد يجعل ما لا نتصوره حقيقة واقعة.
وقال “إنهم يجعلون الأسلحة تبدو أكثر قابلية للاستخدام، حتى مع عدم وجود خطة موثوقة للسيطرة على أي تصعيد”.
حصار الصين
وتعد الصين هي أكثر القوى النووية الكبرى عرضة للتهديد نتيجة التطورات الأميركية حسبما يرى المحللون، إذ يمكن لضربة وقائية صغيرة تدمير ترسانتها الصغيرة نسبياً.
لعقدٍ كامل، ساعد كريستوفر ب. تويمي، خبير الأمن القومي بكلية الدراسات العليا البحرية، في عقد العديد من الاجتماعات غير الرسمية بين العديد من المحللين الأميركيين والصينيين، ومسؤولي الحكومة وضباط الجيش.
كما أدلى بشهادته العام الماضي أمام اللجنة التي شكلها الكونغرس لدراسة العلاقات الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين، وأفاد فيها عن شعور الصين بالحصار المتزايد بسبب صاروخ واشنطن الذي تفوق سرعته سرعة الصوت، إذ ترى فيه تهديداً لأمنها ووسيلة لمهاجمتها دون اللجوء للخيار النووي، مما يعقد من الوضع.
كما أشار إلى مخاوف القادة الصينيين بشأن العدد المتزايد لمضادات الصواريخ على متن السفن الحربية الأمريكية أو القواعد الموجودة في كاليفورنيا وألاسكا.
وأضاف في النهاية أن بكين تراقب التحديث النووي الأميريكي “بالكثير من القلق”، خاصة خطط صواريخ كروز المتطورة أو القنابل الموجهة أو نظم التسليم الجديدة.
كما أفاد د. تويمي في شهادته بأن “الصين قد استجابت لهذه التغييرات، وستستمر في ذلك على مدار العقد القادم”، حيث بدأت الصين بالفعل في إعادة هندسة العديد من صواريخها طويلة المدى لتصبح قادرة على حمل أكثر من رأس حربي مثلما فعل بوتين.
وأقلقت هذه الخطوة العديد من المحللين بسبب قدرة بكين على مدار العقود الماضية على صنع الرؤوس الحربية المصغرة ووضع أكثر من اثنين على صاروخ واحد.
حرب نووية غير مقصودة
لكن بكين ناقشت خطوة أكثر تشاؤماً. فعلى مدار عقود، أبقت كل من واشنطن وموسكو ترسانتها النووية في حالة عالية من التأهب، بحيث يمكن نظرياً إطلاق الصواريخ في حالة كشف الرادارات أو الأقمار الصناعية عن غارة قادمة، تفادياً لضربة قاسية قد تقضي أو تحد من قدرة البلاد على رد أي هجوم.
بينما يرى النقاد أن اتباع هذا النهج يزيد من احتمال نشوب حرب غير مقصودة، مثلما حدث في الماضي حين قادت العديد من الإنذارات الكاذبة العالم إلى شفا كارثة.
العام الماضي، أوضح الجيش الصيني في وثيقة رسمية أن الدولة تسعى لتطوير آلية استراتيجية للإنذار المبكر لمنظومتها النووية.
وفي مطلع هذا العام، نشر اتحاد من العلماء من كامبريدج وماساشوستس ، تقريراً حول تكثيف المناقشات التي تتناول قضية إطلاق الأسلحة النووية مع تحذير مسبق يهدف للحد من التسلّح. وذكر التقرير أن التحديثات التي أجرتها إدارة أوباما لأسلحتها النووية هي العامل الخارجي الأبرز المؤثر على القرار الصيني المذكور.
ويرى الساعون إلى الحد من التسلح إلى أن مجال عملهم يحتاج للكثير من التطوير، وأن الأنظمة الحالية المستخدمة، والتي تعتمد على حصر أعداد الرؤوس النووية وطرق حملها، لم تعد مناسبة للتطورات الجديدة في تلك الأسلحة.
مارك جوبرود، خبير الأسلحة النووية بجامعة كارولينا الشمالية الأميركية، كان قد ضغط مؤخراً نحو التفاوض على منع عالمي لاختبار الطائرات التي تفوق سرعة الصوت، كما أكد أنه في حال استمرار العمل بالطريقة ذاتها، فستصبح الرؤوس النووية واقعاً عالمياً في العِقد القادم.
يقول جوربرود “لقد فشل العالم في احتواء خطر الأسلحة النووية ومحاصرته، كما أن الأخطار الجديدة أكبر بكثير من سابقتها”.
المصدر : هاف بوست