تطلّ مدينة جينيه على نهر النيجر في دولة مالي، وتبعد عن المدينة الأثرية تمبكتو بحوالى 400 كم. شارك في تأسيسها وبنائها العربُ والطوارق والأفارقة حين كانت منارةً للعلم، ومركزاً لنشر الإسلام في غرب أفريقيا ووسطها.
أخذت مساجد مالي هيئتها من تراث القوم وأصولهم وفطرتهم، فكانت دليلاً على العمارة الإسلامية الأفريقية العريقة، وظلّ مسجد جينيه الطيني العظيم رمزاً شامخاً على روعة الفنّ البدائي الخالي من التعقيد، والذي يعتبر أكبر مبنى طيني في العالم.
تكرّر ذكر مدينة جينيه ومسجدها الطيني في كتب الرحالة والجغرافيين. فالمؤرّخ الأفريقي عبد الرحمن السعدي، صاحب كتاب “تاريخ السودان”، والذي عمل إماماً لمسجد جينيه الكبير في النصف الأوّل من القرن السابع عشر، وكان من مواليد مدينة تمبكتو، أشار إلى دور المسجد الطيني العظيم الذي يؤمّه الأفارقة لتلقّي العلم وحفظ القرآن الكريم.
تثير عمارة المسجد الدهشة والانبهار، فالطين هو المادة الإنشائية الأساسية لهذا المسجد، ولأنّ مادّة الطين ضعيفة وعرضة للتآكل والتأثّر بالأحوال الجوّية وتقلّباتها، فقد فرض استخدام الطين بوصفة مادّة البناء الرئيسة في استحداث المقوّمات المشكِّلة لعمارته، مثل اللجوء لفكرة الأكتاف (والأكتاف دعائم بارزة مهمتها إكساب الهيكل البنائي مزيداً من المتانة والرسوخ والاستقرار)
كما تساعد هذه الأكتاف التي تظهر على شكل نتوءات في جدران المسجد العمّالَ والسكّانَ في إنجاز عمليّات الترميم المتلاحقة سنوياً، كما تمنح جدار المسجد الخارجي منظراً جمالياً فريداً خاصّة مع ظلال الشمس.
أخذت مساجد مالي هيئتها من تراث القوم وأصولهم وفطرتهم، فكانت دليلاً على العمارة الإسلامية الأفريقية العريقة
ينهض المسجد على منصّة ترفع أرضيته إلى منسوب أعلى من مستوى الأرض الطبيعية لحمايته من فيضان النهر المجاور.
وتُغَطَّى الجدران المشيّدة بالطوب اللبِن بطبقة الطين المخلوط بالتبن، ما يعطي المبنى مظهره الناعم الصقيل. وتراوح سماكة الجدران بين 16 و24 بوصة، تبعاً لارتفاع الجدار نفسه.
فكلما ارتفع الحائط قلَّت سماكته، حتى يتسنّى لأساسه حمل ثقله. وميزة الجدران الطينية أنّها تقي الداخل من الحرارة نهاراً، ومع المساء تكون الجدران قد امتصّت من الحرارة ما يكفي لتدفئته حين يبرد الجو.
للمسجد 3 مآذن بارتفاع عشرة أمتار للمئذنة، وهي مآذن مربّعة تستند إلى 18 دعامة، كلّ منها ينتهي بالمخروط التقليدي الذي يحمل بيضة نعامة. وللمبنى فِناء يعادل مساحة المصلّى الذي يستند إلى 90 عموداً من الخشب وتتخلّل سقفه نوافذ تفتح إذا ارتفعت درجة الحرارة.
يقع مدخل المسجد الرئيس في الجهة الشمالية بالإضافة إلى المداخل الثانوية الأخرى المنتشرة في جميع الجهات عدا الشرقية، وهناك برجان خارجيان في الجهتين الشمالية والجنوبية، ويتّسع لأكثر من 2000 مصلٍّ.
يعود عمر المسجد إلى أكثر من 800 عام، وتتعدّد الروايات حول تاريخ المبنى القائم حالياً، والذي كان يُطلق عليه قديماً اسم “كونبورو”.
وفقاً لدراسات فرنسية واسعة، واستناداً إلى الحكايات الأسطورية الشفهية التي عُنيت بالمسجد وتاريخه، هناك من يذهب إلى أنّ المسجد تعرّض للهدم والبناء مرّات عديدة، حيث تمّ تشييده مكان المسجد الأصلي، الذي بُني في القرن 13 واسمه مسجد “تانابو”، وهو اسم حاكم مدينة “جينيه” حينذاك.
وبحسب مزاعم بعض الباحثين، فإنّ المسجد كان يحتوي على مكان مخصّص للوثنيين لأداء شعائرهم، لذا قام أحد حكام المدينة المدعو “أزقيا محمد” بهدمه، لأنّه أصبح مخالفاً لتعاليم الدين الإسلامي وأعاد بناء مسجد “كونبورو” على أنقاضه سنة 1500 تقريباً.
يعود عمر المسجد إلى أكثر من 800 عام، وتتعدّد الروايات حول تاريخ المبنى القائم حالياً، والذي كان يُطلق عليه قديماً اسم “كونبورو”
ويقال أيضاً إنه هُدم مرّة أخرى، وأُعيد بناء المسجد تانابو عام 1600 تقريباً. ويخالف عبد الرحمن السعدي هذه الدراسات، مؤكداً أن مسجد كونبورو الأصلي هو ذاته المسجد الذي عاصره بل إنه كان إمام المسجد.
احتفال شعبي
تشارك الغالبية العظمى من سكّان جينيه في عملية صيانة المسجد وترميمه من آثار الأمطار والشقوق التي يحدثها تغيّر درجات الحرارة والرطوبة، وذلك عبر احتفال سنوي يقام خصيصاً لهذا الأمر.
وفي الأيام التي تسبق هذا الاحتفال الشعبي، يوضع الطين والتبن في حفر كبيرة، وتُترك مهمّة خلطها للأطفال الذين يلعبون في هذه البركة الطينية الكبيرة، من دون أن يعلموا أنّهم يقومون بمهمّة كبرى.
كما يُقام، ضمن فعاليات الاحتفال، سباقٌ بين أهل المدينة لحمل هذا الطين إلى المسجد، يفوز فيه الرجل الذي يتمكّن من الوصول بثقله إلى عمال الصيانة قبل غيره.
على الرغم من هجوم المدنيّة على المسجد من كهرباء الإنارة ومكبّرات الصوت، وتغطية بعض جدرانه بالقرميد، فقد قاوم الأهالي أيّ محاولة لتحديثه، لأنّ ذلك من وجهة نظرهم يمثّل مزيداً من التجنّي على قيمته التاريخية، وهو أمر استحسنه بشدّة دعاة صون المعالم الأثرية في مختلف أنحاء العالم، وهو ما دفع اليونسكو سنة 1988 لوضعه على لائحة التراث العالمي، كما استحقّ أن يدخل قائمة عجائب الدنيا.
العربي الجديد _ وطن اف ام