في بادرة طيبة، أعد «مركز جسور للدراسات» (مقره في إسطنبول) تقريراً تحت عنوان «الشرعيّون في سورية… الفكرة والدور»، نشره يوم 28/11/2017، عرض فيه لنشوء ظاهرة الشرعيين في بنية الفصائل الإسلامية المسلحة، السلفية منها في شكل خاص، وتطورها والدور الوازن الذي لعبته في تحرك هذه الفصائل العسكري والسياسي ما بين 2012 و2015 إن لجهة إصدار رأي شرعي في قضايا يومية تواجه هذه الفصائل في تحركها العسكري والسياسي، وفي قرارات هذه الفصائل؛ أو لجهة الدفاع عنها وعن مواقفها في خلافاتها مع فصائل أخرى حول التكييف الشرعي لموقف عسكري أو سياسي، أو لجهة تغطية عمل عسكري وتبريره ضد فصيل آخر.
لكن أهمية الموضوع لا تبرر للمركز (نوجه الملاحظة إلى المركز لأننا لا نعرف فريق الباحثين)، تناوله في شكل عام وسطحي، وعدم نقده الظاهرة بالكشف عن ضعف أساسها الديني، وتباين منطلقاتها العقدية وتعارضها وتناقضها من جهة، وعدم إقرارها بالتعددية وحق الاختلاف داخل المشهد الإسلامي، بخاصة السلفي، ما جعل الصراع على الشرعية أولوية مطلقة لهذه الفصائل قاتل بعضها بعضاً للاستحواذ على حصرية تمثيل السلفية، من جهة ثانية، والدور السلبي الذي لعبته في المجتمع والثورة السوريين.
يقول التقرير عن القضاء الشرعي الذي تأسس في المحافظات السورية (ريف دمشق، حلب، إدلب، حوران) وتسلّم الشرعيون إدارته: «وشكّلت مسألة القضاء الشرعي قضية مفصلية بالنسبة إلى الفصائل السلفية، باعتبارها طريق «الحكم بما أنزل الله»، واعتُبر هذا القضاء حدّاً فاصلاً بين المؤمنين بالشريعة وبين الرافضين لها، الأمر الذي جعل المطالبة بأي قضاء آخر مصدر خلافٍ وصدام مع الفصائل الأخرى». وأضاف: «وتعود مركزية القضاء الشرعي لدى الفصائل السلفية إلى مبدأ أساسي لديها، وهو أن تحكيم الشريعة مقدّم على قتال النظام، وأن تأجيل التحكيم يؤجّل النصر.
وهو ما أدخلهم في صدام مع المجتمعات المحلية، ومع الفصائل والمكونات [الأخرى]»، من دون أن يلحظ طبيعة هذا القضاء (قضاء حزبي) والهدف من تأسيسه (تحقيق مصالح خاصة لفصيل أو أكثر تنفيذاً لرؤية وأهداف خاصة) وتعارضه مع التصور الإسلامي للقضاء ودوره (عام، لخدمة المجتمع، مستقل، يقف على مسافة واحدة من المتخاصمين ويهدف إلى تحقيق العدل)، وفساد منطلقه (طريق الحكم بما أنزل الله) و (تحكيم الشريعة مقدّم على قتال النظام)، فوظيفة القضاء في الإسلام فض المنازعات وإحقاق الحق، وهو جزء صغير مما أنزل الله.
وتحكيم الشريعة في الإسلام ليست له أولوية مطلقة بل هو مرتبط بشروط اللحظة والمرحلة، وفتوى عمر بن الخطاب بوقف قطع يد السارق خلال المجاعة في عام الرمادة، شديدة الدلالة والوضوح، وقولها هذا مخالفة صريحة لما استقر في فقه الأولويات الإسلامي وفق ما لخصه أبو حامد الغزالي في كتابه «الاقتصاد في الاعتقاد» حيث قال: «إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا… فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات والأمن… فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية… وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة متى يتفرغ للعلم والعمل، وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟
فإذاً: إن نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة، شرط لنظام الدين»، وعدم منطقية الربط بين «تأجيل التحكيم» و «تأجيل النصر»، وقول فقهاء مسلمين كثرٍ: «إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المؤمنة الظالمة» كاف لجبه هذا الربط غير المنطقي وتقويضه.
وقد اتضحت الطبيعة الحزبية والوظيفية لهذا القضاء الشرعي في بيانات شرعيي الفصائل التي بررت قرارات عسكرية وسياسية متناقضة من جهة ومؤيدة قرارات القيادة العسكرية والسياسية بالمطلق، أتحفتنا بذريعة رد «الصائل» تبريراً لقتال فصائل منافسة، قبل أن يثير «حميتنا» البيان الأخير لـ «المجلس الشرعي العام»، التابع لـ «هيئة تحرير الشام»، والذي نُشر بعد تعرض قوات «الهيئة» لهزائم عسكرية قاسية في القتال على جبهتين مع فلول «داعش»، وقوات النظام، في ريفي حماة وإدلب، وجاء فيه: «إن النفير للجهاد اليوم متعين على كل قادر على حمل السلاح واستعماله داخل صفوف تحرير الشام، حيث إن أهل العلم قرروا أن جهاد الدفع أوجب الواجبات بعد الإيمان بالله»، ودعا «كل من لم يكن منشغلاً الآن بعمل يفيد الجهاد بطريقة مباشرة إلى أن ينفر مباشرة إلى مناطق النزال وساحات الشرف، ولو لفترة موقتة، لرد هجمة قوات النظام وتنظيم الدولة»، معتبراً «أنه لا يحل لأي أحد أن يعتذر عن هذا الجهاد الواجب المتعين بالانشغال بأهل أو بمال أو بعمل إداري، إلا أذا أمره أميره بالبقاء في إدارة ينصب العمل فيها في مصلحة الجهاد مباشرة» (توجيه الدعوة إلى النفير العام إلى كوادر «الهيئة» سببه الصراع داخل «الهيئة» بين تيار يريد الارتباط بـ «القاعدة» وتيار رافض هذا الارتباط، ما دفع قيادة «الهيئة» إلى اعتقال عدد من كبار القادة والشرعيين الذين يريدون الارتباط بـ «القاعدة» ودفع كتائب فيها إلى اعتزال القتال تحت قيادتها ما لم تطلق المعتقلين)، ودعوته إلى تشكيل غرفة عمليات مشتركة من جميع الفصائل، متناسياً ما كان قد أصدره ضد هذه الفصائل من فتاوى اتهمها فيها بـ «الردة» وأباح قتالها، وتجاهل قيادة «الهيئة» لمطالب هذه الفصائل بالإفراج عن معتقليها لدى «الهيئة» وإعادة الحقوق، برد المقارت والأسلحة التي استولت عليها في هجومها عليها.
وقد كان لافتاً مرور التقرير السريع على ظاهرة استسهال قتل الإنسان لأتفه الأسباب، مثل قتل صبي في الرابعة عشرة من عمره في حلب لأنه قال لمن لم يسدد له ديناً «لو إجى محمد ما عاد دينك»، علماً أن ممارسة القتل بفتوى «شرعية» قد انتشرت واتسعت لتشمل المئات إن لم يكن الآلاف، حيث اكتفى التقرير بالقول: «ويُلاحظ أن المشايخ المحليين الذين اضطلعوا بشؤون الفتوى في تلك المرحلة اتّسموا عموماً بالتورّع في الدماء والأموال، على خلاف الشرعيين الذين سيَقدُمون لاحقاً من خارج سورية والشرعيين الذين اتبعوا مدرستهم». ناهيك بإيغال الفصائل السلفية في القتل لأسباب مذهبية، ما عمق الانقسام المذهبي والتفكك الوطني والاجتماعي، والافتئات على حقوق الناس ومصادرة أموالهم وأملاكهم، بذرائع واهية في كثير من الأحيان، وما جرته الفتاوى الفصائلية، تبريراً للاقتتال بينها، على المجتمعات المحلية من خراب ودمار، وما أزهقته من أرواح؛ وما تسببت فيه من كوارث لثورة الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة.
واضح أننا أمام قضاء حزبي وظيفي له غاية وهدف خاصان، ما يجعله غير إسلامي بامتياز، كان لخلفاء بني العباس «شرف» ابتداع ظاهرة «المجالس الشرعية» وإعطائها شكلها وآلية عملها، لتغطية قراراتهم وممارساتهم الجائرة بغطاء شرعي تصدره هيئة فقهية مشكلة من فقهاء يعينهم الخلفاء، اشتهروا في التاريخ الإسلامي بوعاظ السلاطين، آلية اعتمدتها حركات السلفية الجهادية وسيلة لفرض رؤيتها وأهدافها على مجتمع المسلمين، كما تبنتها جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر في مشروعها السياسي الذي دعا إلى تشكيل هيئة فقهية لإبداء الرأي في شرعية قرارات السلطة التنفيذية، ما يستدعي التحفظ عن مشروعيتها وعن شرعية قراراتها وفتاواها.
المصدر : الحياة