لبنان يحث الخطى نحو نموذج النظام السياسي الأمني الذي مثلته مدرسة بشار الأسد في سوريا، ولعل اللبنانيين باتوا أكثر اقتناعا هذه الأيام، بأن التحالف الذي يقود السلطة اليوم بوصاية من قبل حزب الله، غير معني بإعادة دور لبنان إلى سابق عهده، أي دولة تتسم بعلاقات خارجية متوازنة مع دول العالم، منتمية إلى محيطها العربي من دون تكلف أو تجاوز لموقع لبنان ونظام مصالحه، ودولة منفتحة على العلاقات مع الغرب من دون أن تمس هذه العلاقة بهوية لبنان العربية. والأهم من ذلك كله أن لبنان يفتقد اليوم المساحة الرحبة للتنوع بمعناه السياسي العميق، بحيث أن المعارضة التي ضاقت في النادي السياسي البرلماني باتت عرضة للإقصاء والتخوين، عرضة للملاحقة القضائية كما هو الحال اليوم بعد تحريك الادعاء العام ضد رئيس حزب الكتائب سامي الجميل وهو رسميا الحزب الوحيد المعارض للحكومة في البرلمان.
السير على خطى النظام الأسدي، يتم أيضا عبر تشديد القبضة الأمنية والإعلاء من معادلة الأمن مقابل المزيد من التضييق على الحريات، وهو ما انعكس تضييقا على وسائل الإعلام والصحافة، بحيث فقدت وسائل الإعلام القدرة على لعب دورها التاريخي بأن تشكل منبرا للرأي الآخر. وفي هذا السياق عمدت السلطة الفعلية في لبنان، والمتمثلة بالقبضة الأمنية الممسكة بمفاصل السلطة الأمنية، إلى ملاحقة عدد من الإعلاميين اللبنانيين في رسالة مكشوفة مفادها أن الاعتراض على تحالف السلطة بات مكلفا ويجب أن يأخذ الإعلام علما بذلك. وتأتي عملية الاستفراد بالإعلام اللبناني وتطويعه، في ظل غياب عربي غير مسبوق عن الساحة الإعلامية مما أتاح لتحالف السلطة، المرعيّ إيرانيا، تحويل المؤسسات الإعلامية الكبرى إلى وسائل إعلامية ملتزمة بخطوط حمراء لا تستطيع تجاوزها، وهذا ما لم يشهده لبنان في تاريخه.
أبرز الإعلاميين ومنهم مارسيل غانم، وأبرز المعارضين السياسيين ومن بينهم رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، تم تحريك القضاء لملاحقتهم على مواقف أو وجهات نظر اعتبرتها السلطة مخالفة للقانون، فيما إعلاميو السلطة لا يكفون عن الشتم والتهديد العلني من دون أن يتحرك القضاء، بل تجري مكافأتهم والتنويه بكفاءاتهم التي تقتصر على لغة التهديد والضرب بسيف السلطة لكل معارض لها، لكن الأكثر خطورة كان العبث بالسلطة القضائية حيث تمّ إقصاء رئيس أعلى سلطة قضائية إدارية أي مجلس شورى الدولة الذي أقيل رئيسه بسبب ملاحقته لقضية فساد في ملف النفايات، واستكمل ذلك بإجراء إداري قضائي تمّ خلاله إجراء مناقلات وتعيينات قضائية في الكثير من التجاوزات للأعراف والرتب والكثير من السياسة التي جعلت القضاء كما لم يسبق أيضا أداة طيعة بيد السلطة تستخدمه بما تقتضيه مصالح فرقائها.
القبضة البوليسية هي المقدمة الموضوعية لترسيخ مفهوم الدولة البوليسية في لبنان، ذلك أنّ المعادلة التي يجري ترسيخها والمطلوب حمايتها وعدم التعريض بها ولا الاعتراض عليها، هي معادلة طالما انتفضت في وجهها قوى الرابع عشر من آذار، وطالما كان اللبنانيون يرفضون قيامها، هذه المعادلة ترتكز على تسليم فعلي بدور حزب الله الأمني والعسكري والسياسي، وتنازل ضمني من شركائه الشكليين في السلطة عن السيادة اللبنانية لصالح مقتضيات المحور الإيراني ومتطلباته في لبنان لا سيما في السياسة الخارجية وفي إدارة الأجهزة الأمنية، في مقابل شراكة تقتصر على تقاسم الحصص ما دون السياسة الخارجية والأمن والسيادة، بحيث أن صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة وأعضائهما هي أشبه بصلاحيات المجالس المحلية أو البلدية في أي دولة في العالم، صلاحيات غير سيادية وتقتصر على شؤون إدارية واقتصادية لا تخلُّ بموقع لبنان داخل المحور الإيراني.
وإذا كان نموذج الدولة البوليسية في لبنان يحذو حذو نظام الأسد في سوريا على صعيد تقييد الحريات ومصادرة السلطة القضائية وتقييد الإعلام، فإنّ عنصرا آخر أخذه حزب الله من هذه المدرسة والتزم به، هو حماية وضعية الدولة البوليسية من خلال ذريعة العدو الإسرائيلي، ذلك أنّ إسرائيل التي اختبرت علاقاتها مع كل محيطها العربي، وجدت أن النموذج الصالح لتوفير الاستقرار على حدودها باعتبارها دولة غير راغبة بسلام فعلي مع الفلسطينيين ولا العرب عموما، هو النموذج الأسدي أو السوري منذ حكم آل الأسد سوريا، أي نظام يعلن ليل نهار أنه ضدها ويقمع شعبه بحجة الصراع مع إسرائيل، فيما يمارس أفضل الشروط لحماية حدود إسرائيل كما كان حال الجولان السوري المحتل ولا يزال منذ أربعة عقود حتى اليوم.
هذا النموذج هو الجاري تطبيقه في لبنان بإشراف حزب الله وإدارته، أي تصعيد في الخطاب السياسي والإعلامي ضد إسرائيل، مقابل هدوء واستقرار على حدودها مع لبنان، ومنع أي طرف من القيام بأي عمل عسكري ضدها عبر الأراضي اللبنانية ليس بقوة القوة الدولية المنتشرة في الجنوب بل بقرار ميداني من حزب الله وهـذا ما تعرفه إسرائيل وكل المجتمع الدولي، بل هذه هي الورقة الذهبية التي تتيح لحزب الله أن يتجاوز الكثير من الحدود القانونية في الداخل والخارج، لإدراكه أن أحدا من المجتمع الدولي لا يريد أن يغامر بخسارة دور حزب الله الذي يحفظ الاستقرار على الحدود مع إسرائيل، كما يضمن حماية الجنود الدوليين في الجنوب، ويشكل عنصر ضمان لعدم تدفق أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري من لبنان نحو أوروبا.
النموذج الأسدي الذي يخطو لبنان نحوه خطوات متقدمة، هو النموذج الذي يقوم على مقايضة القوى الكبرى وإسرائيل بتأمين مصالحهما مقابل إطلاق اليد في ما لا يمس مصالحهما، أي احترام مصالح الخارج القوي وانتهاك حقوق الداخل أمنيا وسياسيا واقتصاديا، باعتبار أنّ التحكم بمفاصل السلطة هو الغاية والهدف.
شراسة حزب الله من خلال دوره في محور الممانعة تجاه سوريا وشعبها وتجاه دول عربية، لا تقاس بما هو الحال مع إسرائيل، كما مدرسة الأسد من الأب إلى الابن، فشراسة الأسد ضد منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين عموما تشهد عليها حروب شتّى خاضها ضد المخيمات الفلسطينية والقرار الفلسطيني المستقل، وعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قتلوا بسيف الأسد في لبنان وسوريا وغيرهما، فيما إسرائيل لم ينلها من الأسد إلا الخطب الرنانة والسلام الدائم على الحدود المشتركة، أما حرب أكتوبر 1973 فقد تحولت إلى ذريعة بيد الأسد الأب والابن استخدمت ضد السوريين وكذلك لإنهاء الثورة الفلسطينية وقمعها.
حزب الله على الطريق نحو تحقيق هذا النموذج في لبنان، ونحن أمام هذه الحقيقة فهل سلّم اللبنانيون واستسلموا؟
المصدر : العرب