ما تشهده سورية اليوم من تهجير قسري لجماعات ومناطق بعينها سبقته مقدّمات كثيرة، أبرزها المجازر الممنهجة، ولعلّ أبرزها مجزرة البيضا، التي حدثت في مثل هذا الشهر قبل أربع سنوات. والحاجة اليوم لإحياء ذكرى هذه المجزرة لا تقتصر على مجرّد التذكير بالفظائع التي شهدتها فحسب، بل على إدراك موقعها ضمن التقويم الزمني لأحداث الثورة، وعلى دلالاتها آنذاك أيضاً.
بدايةً، لم تكن تلك المجزرة حاجة ميدانيّة ملحّة بالنسبة للنظام، باعتبار أنّ بانياس، المدينة الساحلية ذات الغالبية السنية والتي تتبع لها قرية البيضا، سبق أن حوصر النشاط الثوري فيها منذ الأيام الأولى للثورة، بحيث ما عادت تشكّل خطراً حقيقياً على النظام. وبهذا، كانت الحاجة لارتكاب تلك المجزرة حاجة سياسية الطابع، خصوصاً في ما يتعلق بالجمهور المؤيد للنظام، منهم العلويون بالخصوص. فالجمهور في تلك المنطقة كان في حالة تململ شديد، وبدا واعياً بأنّ النهاية السريعة لـ «الأزمة»، عبارة عن وهم من بضاعة النظام.
والأهم من ذلك، أنّ العلويين في تلك الفترة، وبغض النظر عن موقف أكثريتهم العلني الداعم للأسد، كانوا يشهدون تحوّلاً كبيراً على مستوى جماعتهم جعلهم يتصرفون كجماعة متماسكة، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخهم، إلا أنّ هذا التحوّل الذي توخّاه النظام لم يكن دائماً في مصلحته.
ففي تلك الأثناء، ازداد استياء العلويين من تحملهم العبء الأكبر في مساندة الأسد، عبر شبابهم الذي يُساق إلى الجيش. وعلى عكس الأيام الأولى، لم يعد رفض الالتحاق بالجيش أمراً أشبه بالعار بل انتشر وحظي بتأييد على مستوى الجماعة نفسها، في ظاهرة أشبه بالمقاومة الشعبية السلبية. وبدا أنّ هذا الاستياء كان في طريقه للتحوّل إلى شيء آخر أقرب ما يكون إلى لحظة يقظة عموميّة لم تكن ماكينة النظام الإعلامية قادرة على منعها، خصوصاً بعدما بدأ الشباب المتحمّس العائد من الجبهات الداخلية يروي الفظائع التي يرتكبها الجيش والأمن، وانحطاط مستواهما الأخلاقي المتناقض مع سذاجة وحماسة أولئك الشباب، الذين لم يُخف بعضهم غضبه من سلوك رؤسائهم الضباط في الجيش، ليس تجاه السنيّن فقط بل تجاه أبناء طائفتهم العلويين أيضاً. بخاصة أنّ هذا السلوك لم يكن مقتصراً على الفساد المادي والاسترزاق بل تعدّاه إلى المجازفة بحياة أولئك الشباب وخسارة الكثيرين منهم، وهذا ما كان يتردّد في كثير من مراسم دفنهم.
إلى هذا وذاك، كان المجتمع العلوي يتعرّض الى ضغط هائل، فمن جهة تصدّر «الشبيحة» المشهد الاجتماعي في المدن والقرى، وعدا عن طغيان رموزهم وثقافتهم الهمجيّة، باتوا يهدّدون أمن السكان المدنيين من طائفتهم ومن غيرها. ومن جهة أخرى، بدا وكأنّ العلويين قد تعرّضوا إلى ما يشبه الصدمة، إذ اكتشفوا فقر مجتمعهم للتقاليد المهنيّة من ناحية، واكتشفوا حيوية ارتباطهم بالمدن والمراكز التجارية الداخلية، إذ بدأت السلع والمواد بالتناقص، واهتزّت أسواقهم.
وهذه الأحوال والتغيرات كانت محفّزات أساسيّة لارتكاب مجزرة على نموذج مجزرة البيضا، أي مجزرة لا تشارك فيها قوات النظام بل الأهالي، وبهذا لم يكن نظام الأسد يسعى إلى شدّ عصب مؤيديه فحسب، بل إلى تحميل العلويين ذنب تلك المجزرة، أي توريطهم بشكل مباشر بأعماله الوحشية. وكانت غاية الأسد من اللعب على الشعور بالذنب إحكام السيطرة على العلويين وعدم إتاحة المجال لهم للخروج عن طاعته وتأييده. وأغلب الظنّ أنه لم ينجح في ذلك، فالمشاعر السلبية التي قوبل بها المشاركون في المجزرة من قبل مجتمعهم دلّت على رفضه لها، كما دلّت على أنّها عمل من تدبير النظام بدليل أنّه لم يجرِ تكرار هذا النموذج، الذي استعيض عنه بمرتزقة الدفاع الوطني المدعومة من إيران، وثمّ بتوسيع دور «حزب الله».
ما فعلته مجزرة البيضا إذاً كان أبعد من ترهيب السنيّين، إذ أعادت تقسيم المجتمع العلوي، ليس بين مؤيد ومعارض، بل بين أكثريّة مدنيّة تهرب من خوفها لتعيش في الوهم، وأقليّة مجرمة تتسلّط على الجميع، وهذا فصل صغير في مأساة العلويين مع هذا النظام، مأساة ترفّع كثيرون عن محاولة فهمها.
المصدر : الحياة