إثر العمل الإرهابي الذي أودى بحياة عشرات المصريين الأقباط، انحصرت ردود الفعل المحلية والدولية في حلقة إدانة واسعة شملت الإرهاب ومنفّذيه، ومن يدعمهم، ومن يتستّر على جرائمهم، ومن أتاح لهم الوصول إلى هذه الدرجة من الإجرام، بالاستناد إلى تفسيرات “خاطئة” للنصوص الدينية، .. إلخ.
وكعادة الأنظمة غير الديمقراطية، العامل الخارجي هو المُرجّح، والمؤامرة على البلاد هي المُختارة من بين كل الأمور، لتكون قميص عثمان التبريرات والابتعاد المدروس عن البحث في الأسباب الباطنة والظاهرة لمثل هذا الإجرام. وكان خطاب الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، واسع الدلالات، من حيث تحميل المسؤولية لعناصر آتية من خارج حدود البلاد، درءاً لكل الظنون التي ربما تتجه بأنظارها إلى داخل البلاد، وإلى البحث في أسبابٍ حقيقيةٍ لما آلت إليه الأمور.
الرئيس الآتي بانقلابٍ عسكري بالنسبة لبعضهم، أو بانقلابٍ ناعم بالنسبة لآخرين، أو بـ “ثورة” بالنسبة للمريدين، أو بثورة مضادة بالنسبة للمتردّدين، لم يتردد في توجيه التهديدات إلى من حدّد أماكن وجودهم في ليبيا المجاورة، منخرطاً بوضوح في عملية المواجهة المسلحة التي يقودها اللواء الليبي، خليفة حفتر، ضد الحكومة الشرعية التي يعترف بها المجتمع الدولي، ويُحاربها في الآن ذاته، من خلال دعم مُستتر لحفتر، أو من خلال السكوت عن طموحاته التسلطية المدعومة من جهاتٍ إقليمية، متمكنة مالياً من شراء القادة والمُقادين.
كما أقحم الرئيس السيسي السوريين في أتون الاتهامات، وقال إن من قام بالجريمة هم من الذين “أُخرجوا” من مدينة حلب في شمال سورية، معتبراً أنهم “قاموا بتخريب سورية، وآتون فبمعزل عن كاريكاتورية الاتهام، فإنه يُشير إلى ضعفٍ تكويني بالجغرافيا، فالمقاتلون الذين تم إخراجهم من حلب، بعدما سُلِّمَت تُركياً، سيحتاجون إلى جيمس بوند أو لممثلي فيلم حرب النجوم، للوصول الى جنوب مصر. أو إنها المعجزة الربّانية التي يملك السيسي وحده مفاتيح تفكيكها؟ وإضافة إلى هذا الضعف في الحجّة، يحمل الاتهام جرعةً فاضحة لموقف مصر مما يحصل في سورية، فقد أكد الرسميون المصريون، في أكثر من مناسبة، إنهم يسعون إلى حلٍ سلميٍ سياسيٍ، دونما الانقياد إلى دعم هذا الطرف أو ذاك. وإذ بهم، ومن خلال هذا الاتهام البعيد عن الصحة، يعتبرون، وعلى لسان رئيسهم المفدّى، أن مقاتلي حلب هم من أفراد عصابة داعش (…). اتهامٌ غاب حتى عن الخطاب الرسمي السوري، كما خطابات داعميه المتنوعة، والمكتفين جميعهم بالإشارة إلى انتماء جميع المجموعات المعارضة إلى مفردة الإرهاب.
وعلى الرغم من انتشار الدراسات الرصينة التي توجّه إصبع الاتهام إلى السياسات العامة في إدارة مسألة التنوّع في مصر، كما في غيرها من الديكتاتوريات العربية، فقد وجّه النظام المصري ضرباتٍ جويةً لمعسكرات مجموعات مسلحة ليبية، لا ناقة لها ولا جمل فيما حصل، عدا عن أنها إسلامية التوجه. واستناداً إلى تجارب سابقة، من شبه المؤكد أن السلطات المصرية ستلجأ إلى السياسة التقليدية، والمُجرّبة داخلياً، لمواجهة الفكر المتطرّف، وهي تستند أساساً على النقاط التالية:
إغلاق ما تبقى من منظمات المجتمع المدني التي تساهم في التوعية المجتمعية، أو توثيق الانتهاكات، أو في نشر ثقافة المواطنة. اعتقال من تبقوا من الناشطين السياسيين والمجتمعيين. تعزيز سياسة تكميم أفواه من يجرؤ من الصحافيين والكتاب عن الحديث عن موبقات الاستبداد، إضافة إلى تعيين عناصر أمنية لرئاسة تحرير الصحف القومية.
تعزيز الحملات الإعلامية ضد المثقفين عموماً، والحقوقيين خصوصاً، واعتبارهم خطراً ماحقاً على “الاستقرار”. الاستمرار في مقاضاة من تخوّل له نفسه كشف المستور عن انتهاكات الدستور، أو من يخال إمكانية التنديد بالفساد الممأسس. الاستمرار في الاستخدام السياسي للدين، ولمؤسسته الرئيسية الأزهر، وغض النظر عما يصدر من أحكام الردة أو التكفير بحق التنويريين من المسلمين. تعزيز وجود الاتجاهات السلفية المُسيطر عليها أمنياً، سعياً إلى الحد من بقايا تأثير جماعة الإخوان المسلمين في المجتمع المتديّن. إصدار مزيد من أحكام الإعدام بحق معتقلين سياسيين من “الإخوان المسلمين”. تحويل “القضاء” إلى أقسام شرطة، لا يتعدى دور القاضي فيها مستوى “حضرة الضابط”. أعمال “فنية” متدنية المستوى، لشرح التعاليم “الحنيفة/ الأمنية” للدين الإسلامي الرسمي. تعزيز دور ببغاوات مجلس “الشعب المصري” في إدانة أي تطلع للتحرّر من الاستبداد، والذي إن حصل فسيكون أشدّ وطأة على الإرهاب الظلامي من كل الأعمال الأمنية.
وبالتأكيد، سيجد عُتاة الأمنيين مزيداً من الإجراءات الفعّالة، والتي لن تؤدي إلا إلى مزيد من التطرّف داخل المجتمع، وتؤجج الأحقاد، وتدفع كثيرين إلى أحضان المجهول إرهاباً كان أو هجرةً. وسيُبدِع ممالئو الاستبداد في اختراع التبريرات، مستندين إلى نفوسٍ خاضعةٍ، وإلى مقدرات غوغائية متطورّة. كما سيكتفي الغرب، صاحب الممارسة الانتقائية في الدفاع عن “القيم” الكونية لحقوق الإنسان، بأن يتفهّم الاحتياجات الأمنية لمصر والاستمرار، بل وتعزيز، سياسات الدعم القائمة على قدم وساق. في المقابل، ولدرء الخجل الشامل، سيشجّع مجتمعاته المدنية إلى ممارسة الإدانة، بعيداً عن أي تأثير في السياسات.
المصدر : العربي الجديد