تبدو روسيا، في الظاهر، قوةً جبارة تمسك بأمور سورية، وتنفرد انفراداً متعاظماً بها، خدمة لمصالحها، المقبولة من جميع الأطراف المتصارعة. أما في الواقع، ليست الصورة الظاهرية حقيقية، إلا إذا كان النظام ينتهك ما يقرّره الكرملين، بموافقته أو باتفاق مسبق معه.
وهذا ينفيه الناطقون باسمه بألف لسان يومياً. ويسوّغ طرح سؤال رئيس حول قدرته على تنفيذ ما يقترحه، ويتعهد بإلزام النظام به، مع أن هذا يرفضه كل مرة عملياً، بعد برهة من إعلانه قبوله لفظياً، في حين تدعم إيران، حليف روسيا الآخر، خروج الأسد على خطط بوتين، ويمارس بدوره سياساتٍ تسهم في إحباط سياسات موسكو، وتقويض سمعتها وقدرتها على تنفيذ ما تقترحه. يتلاعب الأسد والملالي بروسيا التي تصمت محرجةً أو تنصاع مكرهةً لما يفعله حليفاها، فتشارك، عندئذٍ، بطيرانها في إظهار عجزها عن الإمساك بقوى الصراع السوري وإدارة تناقضاتها، وإرغام هذين على قبول خياراتها، والانضواء فيها من دون مقاومة.
يهدر الروس دماء السوريين برعونة، ويتلاعبون بقضيتهم، تنفيذاً لقرارٍ مسبق، لم يحيدوا عنه، هو إنقاذ بشار الأسد الذي يبدون صبر أيوب في كل ما يتعلق بتمكينه من إحراز مكاسب ميدانية، يعني تراكمها إحداث تحول نوعي لصالح نظامٍ عجز عن حسم الصراع لصالحه، فلا أقل من أن يساعدوه على قضم مناطق الثورة وحاضنتها، تحقيقاً لخطةٍ وضعوها قبل غزو سورية، أدى تطبيقها إلى حصر الثورة في مناطق تخضع لسيطرة متشدّدي جبهة النصرة، المعادين لها.
يعرف الروس أن انفرادهم بحل القضية السورية ضربٌ من المحال، وأن تعقيداته تتحدّى قوتهم العسكرية وديبلوماسيتهم أسدية الخيار.
ويعرفون أيضاً أن تعاونهم مع واشنطن حتميٌّ ولا مفر منه، لأن القرار الأخير في كل ما يتصل بمصير سورية كان وسيبقى في يدها. لكنهم، وبدل أن يوجهوا جهودهم السورية نحو واشنطن، بدعوتها إلى تطبيق وثيقة جنيف، وتشكيل هيئة حاكمة انتقالية تتولى نقل سورية من الاستبداد إلى النظام الديمقراطي، تراهم يبتدعون ألاعيب سياسية/ عسكرية تبدو كأنها تستهدف التنصل من هذا الخيار، والتمسّك بسياساتٍ فاشلة تقوم على الاحتواء والعنف، يتوهمون أنها توسع هوامش انفرادهم بالشأن السوري وحله المطلوب، مع أن عائدها ذهب حتى اليوم إلى النظام الأسدي وإيران: الطرفين اللذين يعملان لإحباط هدفها الاستراتيجي: الانفراد بسورية والسيطرة عليها وتحويلها إلى موقعٍ يمكنها الاستئثار به من القفز إلى البلدان المجاورة، وبناء واقع إقليمي جديد هي فيه قوة موازية لواشنطن.
ماذا غير التخبط يفسّر تركيز روسيا على عملٍ لن يصل بها إلى الهدف المرغوب، يعقد مهمتها السورية وأوضاعها، ويمكّن الطرفين، السوري والإيراني، من التلاعب بدورها وإعاقة جهودها، كما يحدث اليوم بخصوص انعقاد لقاء أستانة المقبل، والذي تم تأجيله مرتين في أقل من أسبوعين، والسبب عجز روسيا، وإلا فامتناعها عن إيقاف هجومهما الشامل على حوران، المنطقة المشمولة باتفاق المناطق مخفضة التصعيد التي بدل أن ينخفض العنف ضدها، ويسهم انخفاضه في قيامها بنقلةٍ مهمةٍ لصالحها، تقف مكتوفة اليدين أمام خضوعها، باعتبارها منطقةً محرّرة لحربٍ ضروس وغير مسبوقة، يشنها عليها النظام والإيرانيون ومرتزقتهم، وسط صمت روسي مريب، في عجزه أو في تواطئه.
يبدو اليوم أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تعب من المكابرة. لذلك اعترف أن تحقيق الأهداف الروسية في سورية يرتبط بقرار أميركي، وتالياً بإرادة واشنطن. هل يقطع الرئيس الروسي، أخيراً، مع سياسات ورطته في حربٍ مكلفةٍ سياسياً ومالياً على سورية، من دون أن تقرّبه من هدفيه: إنقاذ النظام عبر احتواء المعارضة في صفوفه، والإبقاء على الأسد رئيساً للشعب الذي يرفضه، والانفراد بسورية الذي أحبطته إيران وربيبها الطائفي أكثر مما تصدّت له واشنطن بجيشها، المنصرف إلى إقامة بنية عسكرية استراتيجية في شمال سورية والعراق، تمكّنه من إقامة تماس مباشر، جغرافي وبشري وعسكري، مع إيران وتركيا والخليج وشمال البحر الأبيض المتوسط، يعوض بواسطتها ما فاته تحقيقه خلال غزو عام 2003، فإن نجح في قطع خطوط إمداد إيران والأسد عبر العراق، وحرّك الورقة الإسرائيلية، وجد الروس أنفسهم بين فكّي كماشة، تستطيع إرغامهم على تقليص طموحاتهم وتخفيض تطلعاتهم، وإفهامهم أن الأسد وإيران عبئآن ثقيلان عليهم، وليسا ورقة يضغطون بها على أميركا، وأن التمسك بهما لن يعود عليهم بغير الخسارة التي لن ينجيهم منها غير خطوات استباقية، تستهدف التخلص منهما، كي لا يجدوا أنفسهم حيال وضع جديد لا قبل لهم بمواجهته.
المصدر : العربي الجديد