المعارضة العنوان العريض المكتوب على الجدار بأحرف كبيرة للتصحر السياسي في سورية، ولم تغير الثورة السورية وأكلافها الدموية الكبيرة على مدار ست سنوات من صورة هذا التصحر شيئاً. كانت الثورة السورية مدهشة بكل المقاييس، ليس لتصدي المتظاهرين للقمع بالرصاص الحي بالصدور العارية، وليس لمواجهة نظام معروف بدمويته المجربة في مجازر حماة في ثمانينات القرن الماضي فحسب، بل أتى إدهاشها من شمولها كل المدن السورية، وباتت كل مواقع التظاهر مركزية في مواجهة نظام احتلالي وحشي في قمعيته.
منذ البداية، النظام لم يناور، كانت له استراتيجية واحدة لا غير: القتل، بوصفه الرد على أي نوع من الاحتجاج. فالنظام الأمني لم يستخدم لا خراطيم المياه ولا القنابل المسيلة للدموع، منذ البداية كان الرصاص هو الحل الوحيد بالنسبة إليه.
عندما انطلقت الثورة السورية، كان التصحر السياسي في سورية قد بلغ ذروته، فحافظ الأسد بحكمه المديد (ثلاثة عقود) قطع رأس السياسة ودمر المعارضة بكل طيفها السياسي، من الإسلاميين إلى اليساريين، بالقتل أو بالسجن لسنوات طويلة. وما تبقى حوّلهم إلى إمعات في «الجبهة الوطنية التقدمية». مع توريث بشار الأسد، تم تأكيد هذا التصحر، والربيع الكاذب مع بداية التوريث سرعان ما تم سحقه عبر زج كل رموزه في السجن.
ما نريد قوله أن سورية عشية الثورة كانت خالية من أي معارضة سياسية منظمة ذات وزن. كانت هناك أصوات قليلة انتقاديه، لكنها كانت أصواتاً فردية، تُحسب لها جرأة استثنائية.
أما حقل السياسة بوصفه مكاناً لتفاعل القوى السياسية وصراعاتها، فكان فائق التصحر.
لم يكن وراء الاحتجاجات السورية التي أعلنت عن نفسها في المدن أي قوى سياسية، وهذا ما جعل انطلاقة الحراك خالياً من أمراض المعارضة. حيث قامت هذه الاحتجاجات بمبادرات محلية من نشطاء ولدوا وتعلموا السياسة في قلب الثورة ذاتها، فقد جلبت الثورة إلى ساحة الفعل السياسي السوري خلال أشهر قليلة من انطلاقتها، عشرات آلاف الناشطين السياسيين الذي لم يكونوا على صلة بالسياسة قبل ذلك.
عمل الحكم المديد للأب والابن على جعل المعارضة التقليدية بكل طيفها الإسلامي واليساري، تستبطن فكرة بقاء النظام للأبد: «الأسد للأبد» بوصفه أشهر شعارات النظام خلال فترة حكم الأب. بمعنى آخر، لقد استطاع النظام أن يُكيّف المعارضة مع بقائه. والمعارضة تكيّفت مع هذا البقاء، لدرجة أنها أخذت تتعامل مع النظام بوصفه حاكم البلد إلى الأبد، وتتعامل مع نفسها بوصفها معارضة لهذا الحكم إلى الأبد أيضا، ولا شيء قادر على تغيير هذا المعادلة.
وعندما جاءت الثورة، لم تغير شيئاً في ســـلوك هذه القـــوى التقليدية، ويمكن القول إنها بعد ست ســـنوات من عمر الثورة ما زالت، من «الإخوان المسلمين» إلى حزب الشعب، تتصرف بعقلية المعارضة ما قبل الثورة. فالخلافات الداخلية التي عصفت بالمجلس الوطني ومن بعده الائتلاف، وداخل القوى المشكلة له، لا توحي بأن الشركاء في الائتلاف يعيشون في زمن الثورة السورية. ولا يوحي السلوك السياسي للنخبة المعارضة وأحزابها أنها تتعامل مع ثورة شعب كلفت غالياً. فبعد كل هذا الدم، لا نجد في المعارضة ناطقا باسم الضحايا السوريين قادراً على التعبير عن مأساتهم، ولا أحد من المعارضة يعمل على تحويل مأساة السوريين إلى قضية يعمل عليها لتكون عنواناً لتحرر سورية والسوريين.
ولا يجافي الحقيقة القول إن السوريين لم يبتلوا بنظام وحشي فحسب، بل ابتلوا أيضاً بمعارضة متهالكة وبطيف واسع من تشكيلات إرهابية إسلاموية أيضاً، ما جعل خلاص السوريين يبتعد بدل أن يقترب، على رغم الثمن الغالي الذي دفعوه.
المصدر : الحياة