سجلت سابقتان في الحروب الدائرة على الأراضي السورية خلال الأسبوع الماضي: إسقاط الأمريكيين لأول طائرة تابعة للنظام الكيماوي قرب مدينة الرقة، وإطلاق إيران لصواريخ بعيدة المدى من الأراضي الإيرانية باتجاه مدينة دير الزور.
وتشير الحادثتان معاً إلى خلاصة واحدة مفادها أن الأمريكيين في حالة دفاعية أمام الهجوم من المحور الروسي ـ الإيراني، ويشمل ذلك محاولات هذا المحور المتكررة للسيطرة على المنطقة الحدودية السورية ـ العراقية قرب معبر التنف، وصد الأمريكيين لتلك الحملات، وآخرها إسقاط الأمريكيين وحلفائهم الميدانيين في التنف للدرون الإيرانية الصنع مساء الثلاثاء 20 حزيران الجاري.
يبدو مستغرباً، للوهلة الأولى، أن يخاطر طيران النظام الكيماوي بدخول منطقة العمليات الرئيسية لطيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في الحرب على داعش، مهاجماً قوات «سوريا الديموقراطية» الحليفة لواشنطن التي تحاصر الرقة. فهذا الاحتكاك يقوض كل ادعاءات النظام، ومعه ظهيراه الإيراني والروسي، برغبتهم في المشاركة في الحرب على داعش، فضلاً عن مخاطر اختبار العزم الأمريكي.
ولكن إذا نظرنا إلى ردة فعل الأمريكيين على الحادثين، اتضح أن ما يقال عن ارتباك الإدارة الأمريكية بشأن سياستها في سوريا ما زال يحتفظ بصحته. فقد مضى الآن أكثر من شهرين ونصف على ضرب قاعدة الشعيرات الجوية قرب حمص، وما تبعها من تصريحات أمريكية حادة تجاه النظام الكيماوي، وصولاً إلى وصف ترامب لرأس هذا النظام بالحيوان، وما زال الأمريكيون في حالة دفاعية تجاه المحور الروسي ـ الإيراني الذي لم يبد أي علامة على استعداده لتقديم تنازلات أو تراجعات.
الإدارة الأمريكية التي دأبت، طوال الأشهر الماضية، على إطلاق تصريحات نارية ضد إيران، لم تكد تقول شيئاً ذا قيمة عن الصواريخ الإيرانية التي أطلقت باتجاه دير الزور، وهي المرة الأولى التي تطلق فيها إيران صواريخ مماثلة إلى خارج أراضيها منذ نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية في أواخر الثمانينيات، أي منذ ما يقارب ثلاثين عاماً. ومن المحتمل أن إسرائيل نفسها أحست بخطورة هذه السابقة الصاروخية الإيرانية، برغم معرفتها أنها ليست مقصودة برسالتها الضمنية الموجهة أكثر إلى الأمريكيين ودول الخليج العربي.
هذا الارتباك الأمريكي هو الذي يشجع المحور الروسي – الإيراني، إذن، على مواصلة اختبار الخط الافتراضي الفاصل بين «سوريا المفيدة» المتروكة للروس و»سوريا ما بعد داعش» إذا صح التعبير التي تريد أمريكا الاحتفاظ بها منطقة لنفوذها المديد. ارتباك لا يخص الحرب في سوريا وحدها، بل ظهر أيضاً في الموقف من الخلاف الخليجي ـ الخليجي، فتضاربت التصريحات بين البيت الأبيض والخارجية، مما يشير إلى أزمة إدارة ترامب الداخلية أساساً. ومن المحتمل أن التنمر اللفظي الروسي في أعقاب إسقاط الطيران الأمريكي لطائرة السوخوي قرب الرقة، يعتمد على تلك «القطبة المخفية» -إلى الآن- في علاقة ترامب وفريقه المفترضة بالحكم الروسي منذ حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام الماضي.
من مفارقات الموقف الأمريكي في سوريا، هذا التساهل الغريب مع هجوم النظام وحلفائه الشرس على مدينة درعا، مقابل الحزم الأمريكي في الحفاظ على منطقة معبر التنف وجواره، على رغم أهمية درعا في الحسابات الأمنية الأردنية والإسرائيلية. وبدلاً من غرفة «الموك» التي كانت تدعم الجبهة الجنوبية وتتحكم بمسار المعارك وحدودها، نرى اليوم «مفاوضات سرية» أمريكية ـ روسية في عمان، يفترض أنها وصلت إلى تفاهمات. فإذا كانت نتيجة هذه التفاهمات هي ترك درعا ليستولي عليها النظام وحليفه الإيراني، فهذا من عجائب سياسة إدارة ترامب، ويعني أنها فعلاً لا تملك أي سياسة في سوريا. وهو ما يتعارض مع الحزم الأمريكي الواضح على طول «الخط الاستراتيجي» الممتد شرقاً من التنف إلى محافظة الرقة شمالاً، وتم اختباره مراراً من قبل الإيرانيين والروس.
بالمقابل، لا يخلو الموقف الروسي أيضاً من الارتباك. فإذا كانوا واضحين في دعمهم لسيطرة عميلهم في دمشق على كامل مساحة «سوريا المفيدة» غرباً، فهم أقل حماسةً في دعم محاولاته للتمدد نحو الرقة والطرق المؤدية إلى دير الزور. وجاءت تصريحات لافروف، في أعقاب إسقاط طائرة السوخوي التابعة للنظام الكيماوي، كأنها تعترف بالتخلي عن «تركة ما بعد داعش» في الرقة، وربما دير الزور لاحقاً، للأمريكيين، مقابل الاحتفاظ بالتملك الحصري للأراضي الواقعة غرب نهر الفرات. ولكن يبدو أن الإيرانيين لم يصلوا بعد إلى هذا التسليم أمام الأمريكيين. وهو ما نراه في مواصلة القوات البرية التابعة للنظام والميليشيات التابعة لإيران محاولاتها المستميتة لنيل حصة ما من تركة داعش في الشرق. محاولات ذهبت بعيداً في المغامرة إلى حد الاصطدام بقوات سوريا الديموقراطية ـ أهم الحلفاء الميدانيين لأمريكا ـ بعد سنوات من علاقة هي أقرب إلى التعاون منها إلى الخصومة.
منذ سنوات، والحرب الداخلية في سوريا هي حرب، أو حروب، بالوكالة بين قوى إقليمية منخرطة في سوريا. وكان أحد أركان السياسة الأمريكية في سوريا، في عهد باراك أوباما، هو ترك هامش حركة واسعاً للقوى الإقليمية للانخراط في الحرب السورية، إيران وتركيا والسعودية وقطر، وبدرجة أقل الأردن ومصر والعراق. أما اليوم فنحن أمام انخراط عسكري أمريكي أكثر في الحرب السورية، ليس فقط بسلاح الطيران، بل كذلك بقوات برية يزداد عددها باطراد، وقواعد أرضية ثابتة، وتعزيزات بأسلحة أكثر تطوراً.
هل تندلع الحرب بالأصالة بين الأمريكيين من جهة والروس والإيرانيين من جهة أخرى، بصورة مباشرة، على الأراضي السورية وفي أجوائها، بعد الانتهاء من معركة الرقة؟ المرجح أن أحداً من القوى المذكورة لا يريد ذلك. فالمحور الروسي – الإيراني يضغط وفقاً لسياسة حافة الهاوية، مختبراً الحزم الأمريكي في كل خطوة. والإدارة الأمريكية أكثر انشغالاً بالمعارك السياسية الداخلية الدائرة حول البيت الأبيض، من أن ترغب في الانخراط بحرب غير معروفة النتائج، بعد سنوات من سياسة الانسحاب.
ولكن من يدري؟ أليس إشعال نار حرب كبيرة في الخارج مخرجاً للأزمات الداخلية لدى الحكام المأزومين؟
المصدر : القدس العربي