صبحي حديدي – حكمة الحيوان في البيت الأبيض

تشيلسي كلينتون، ابنة بيل الرئيس الأمريكي الأسبق، وهيلاري المرشحة السابقة للبيت الأبيض؛ غردت هكذا إلى متابعيها على تويتر، ويبلغ عددهم 1.73 مليون متابع: «هل ثمة مَنْ يفكر معي أن الرئيس ترامب قد يستفيد من قراءة خرافات إيسوب؟ القطة والديك والفأر مثلا؟ النسر والسهم؟» الآلاف اتفقوا مع التغريدة، بالطبع، خاصة وأنّ الحكايات التي تشير إليها تحديدا، وسواها الكثير؛ جديرة بتعليم الرئيس الأمريكي الحالي دروسا شتى في الأخلاق، والرأفة، والتآخي، و… التبصر والحكمة، بصفة خاصة!

والحال أنّ «خرافات إيسوب» تظلّ الأكثر شيوعا على النطاق العالمي؛ في عداد الآداب التي تضع فلسفة الحياة والسياسة والحكمة والحكم على ألسنة الحيوان، مصوغة في حكايا طريفة وممتعة، ذات مغزى مبسط وترميز خفيف لكنه غير خافٍ. ثمة، كما هو معروف، «كليلة ودمنة»؛ وكتاب الأقاصيص الهندي الكلاسيكي «بانشاتانترا»، الذي يضمّ خمسة مجلدات من الحكايات، على غرار ما سوف تتخذه مطارحات مكيافيللي في «الأمير».

ولا تكاد تمرّ سنة دون أن يصدر جديد حول حكايات إيسوب، في أكثر من لغة، على صعيد دراسة العمل، أو إعادة تحقيق نصوصه، أو إصدار طبعات مختلفة منه. ولعلّ طبعة «بنغوين» البريطانية، بترجمة جديدة ومقدّمة وافية من روبرت وأوليفيا تيمبل، هي بين أفضل الطبعات المتوفرة، لسبب جوهري هو أنّها تدرج الحكايات كاملة غير منقوصة. وكما هو معروف، كانت معظم الطبعات البريطانية (منذ سنة 1484، حين أنجز وليام كاكستون أولى الترجمات) قد غربلت هذه الحكايات، وراقبت ما يخلّ منها بالآداب العامة، فحذفت عشرات من أصل 350 حكاية. وإلى جانب الحذف، بذل الفكتوريون، خاصة، جهدا خارقا لتجريد الحكايات من دلالاتها السياسية والأخلاقية والفلسفية، وتحويل الأثر إلى محض قصص مسلّية تدور في عالم الحيوان إجمالا، وتُروى للأطفال قبيل الإغفاءة.

ويجمع الباحثون على أن إيسوب عاش في جزيرة ساموس الإغريقية في القرن السادس قبل الميلاد، وكان قد وُلد عبدا، وهكذا مات أيضا. باحثون آخرون يعتبرونه شخصية مختلَقة، أحالت إليه المخيلةُ الإغريقية طائفة من الحكايات اللاذعة التي كان من المستحيل نسبها إلى البشر، بسبب من وطأة رموزها السياسية والأخلاقية. وإلى هذه الحكايات ندين بأمثولات راسخة، مثل حكمة السباق بين الأرنب والسلحفاة، أو الذئب في جلد الحمل، أو حصّة الأسد، أو العنب الحامض…

هنالك حكاية الدبّ الذي تباهى بأنه صديق صدوق للإنسان، يأنف من ملامسة جثة ابن آدم. الثعلب ابتسم وردّ عليه: ليتك أكلتَ الجثة الميتة، وأبقيت على الإنسان الحي! أو حكاية تحالف الصيد المشترك الذي عقده الأسد مع الحمار البري، الأوّل لأنه قويّ وملك، والثاني لأنه سريع الركض وحمّال أثقال. الأسد اعتمد الحسبة التالية في تقسيم الطرائد: حصّة أولى للأسد بوصفه ملك الغابة، وحصّة ثانية للأسد لأنه الأقوى، وحصة ثالثة للحمار… ولكن من الحكمة أن تُترك للأسد أيضا، ثمنا لبقاء الحمار على قيد الحياة!

وهذه حكاية ثانية: وقع نسر في قبضة صياد قاسي القلب، سارع إلى قصّ جناحَيْه، وحبسه في القنّ مع الدجاجات. أشفق رجل على النسر فاشتراه، وأبقاه تحت رعايته حتى نبت ريش جناحيه، فأطلق سراحه. النسر سارع إلى اقتناص أرنب، وأهداه إلى الرجل الثاني من قبيل ردّ الجميل. الثعلب خاطب النسر بسخرية: كان الأحرى بك تقديم الهدية إلى الذي اصطادك وليس إلى الذي ردّ لك كرامتك. الثاني لن يؤذيك في كلّ حال، والأوّل هو الجدير بالرشوة!

حكاية أخيرة: ذات يوم لاحظ القرويون أنّ الجبل يتمخض، إذْ تصاعد الدخان من قمّته، وارتجّ السفح، وتهاوت أشجار، وتدحرجت صخور، وكان محتما أن تشهد الأرض وقوع حدث جلل. ثمّ انشقّ الجبل عن أخدود صغير، فارتعدت فرائص الناظرين خوفا وترقبا، حتى هالهم أنّ فأرا أطلّ برأسه من الشقّ، ليس أكثر؛ فكان أن اجترحوا ذلك القول المأثور: تمخض الجبل فولد فأرا!

وقد لا يكون معروفا على نطاق واسع أنّ سوريا هي الموطن الأصلي لـ«خرافات إيسوب»، وأنّ المواطن السوري الذي تدين له الإنسانية بهذا الفضل الكبير هو بابريوس؛ الذي عاش في القرن الأوّل الميلادي، ولا نعرف عن حياته إلا النزر اليسير، وكان اسمه سيظلّ مغمورا منسيا لولا أبحاث ريتشارد بنتلي (1662 ـ 1742)، العلاّمة الإنكليزي البارز في الآداب اليونانية الكلاسيكية.

ففي كتابه «أطروحة حول خرافات إيسوب»، تعمّق بنتلي في تحليل لغة الحكايات المنسوبة إلى إيسوب (الذي يرجح هيرودوت أنه عاش في جزيرة ساموس اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد، مقابل باحثين آخرين يعتبرونه شخصية مختلَقة كما سلف القول)؛ فوقع على عدد كبير من الصياغات والجُمَل والفقرات التي تعود إلى بابريوس وحده. الدليل القاطع جاء سنة 1842، على يد الباحث اليوناني مينويديس ميناس الذي عثر، في أحد أديرة جبل آثوس، على مخطوط بتوقيع بابريوس، يضمّ 123 خرافة مطابقة لتلك التي ذاعت باسم إيسوب.

.. الأمر الذي يعني أنّ عالم الحيوان هذا، تحديدا، قد يكون عالي الفائدة في أروقة البيت الأبيض، وربما في المكتب البيضاوي تحديدا!

المصدر : القدس العربي 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى