يرى الكاتب السوري راتب شعبو، في مقاله “هل من سبيل لمعارضة علمانية في سورية” (“العربي الجديد” 31/7/2017) أنه “ضاعت دائماً تضحيات المعارضين العلمانيين في الهوة القاتلة بين قمع النظام والخيار الإسلامي المتربّص”. ويخلص إلى أن نضالهم “لم يحقّق أي تراكم مؤثر في سياق مسعى المجتمع السوري إلى الخروج من وهدة الاستبداد والانحطاط السياسي”.
وفي هذه الخلاصة، لم يجانب شعبو الحقيقة التي أظهرتها سنوات الزلزال السوري، لكن ليس واقع الاستبداد وبطش النظام بمعارضيه اليساريين والعلمانيين وحدهما ما أوديا بتضحياتهم إلى الهوة القاتلة تلك، ولا إلى عجزهم عن ترك بصماتهم التي تؤدي إلى تراكم مؤثر في الوعي العام، ودفع الحراك الشعبي في المسارات التي انطلقت الانتفاضة الشعبية السورية فيها إلى الوصول إلى الأهداف المرجوّة، لتحقيق شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وتداول السلطة، والوصول إلى دولة القانون والمؤسسات.
في التاريخ الحديث لسورية، خصوصاً في العقود الخمسة الأخيرة، كانت جماعة الإخوان المسلمين أكثر تعرضًا لملاحقة النظام، بل دخلت في مواجهة عسكرية في أوائل الثمانينات، وكان رد النظام عنيفًا شرسًا، ولوحق المنتسبون إلى الجماعة، أو من يشتبه بهم، مع أقربائهم وعائلاتهم وبيئتهم الضيقة، ومن لحقته شبهة صداقة مع أيٍّ من أعضاء الجماعة، وغصّت السجون بهم، ومنهم من تمت تصفيتهم في السجون، أو غُيّبوا بطرق مجهولة. ومع هذا، بقي للتنظيم الإسلامي هذا من الفاعلية ما جعله يؤسس لمستقبلٍ ما في المجتمع السوري. نجح التنظيم في التأصيل للإسلام السياسي في المجتمع، ونجح في إعداد كوادره، كما إعداد خاماتٍ تكون بمثابة بيئات حاضنة له في صراعه ضد النظام السوري، بأي طريقةٍ تفرضها الوقائع على الأرض، ونجح أيضًا في تمكين مفهوم للدين ينبثق من رحم الإسلام السياسي، وإحلاله محل العقيدة الدينية الشعبية التي عاش المجتمع السوري بروحها منذ عقود طويلة.
باستحضار هذه القرينة، ووضعها على الطاولة مع الراهن الذي آلت إليه الحالة السورية،وسياقاتها خلال السنوات الست الماضية، منذ انطلاقة الانتفاضة، أخمن أن الأوان قد آن للنقد الذاتي الشفاف، والصارم في الوقت ذاته، فإذا كانت التكهنات تفيد أن صوت السلاح بدأ يخبو في الميادين السورية، وأن هناك إرهاصات اتفاقات أو تسويات للدول صاحبة المصالح والتأثير والفاعلية في الصراعات الدائرة، يصبح من الضروري والملح جدًّا التفكير في المرحلة المقبلة، بغض النظر عن شكل سورية المقترحة، أو التي سيفاجئنا بها أصحاب الشأن، باعتبار أن شأننا لم يعد بيدنا منذ مدة ليست قصيرة، حتى لو عادت سورية إلى حدودها الجغرافية التي سبقت الانتفاضة، أو لو صارت فدرالية أو غيرها. هناك استحقاقاتٌ على القوى المجتمعية والنخب الثقافية والسياسية المنتمية إلى اليسار أو العلمانية أو دعاة الديمقراطية الالتفات إليها والتفكير ببرامج يمكن الشروع بها من أجل حماية الشعب المنهك. ما تداولته صفحات التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية من خبر مصوّر عن اتفاقات منتظرة قريبًا، وعن وقف الحرب في نهاية العام الجاري (2017)، وإعلان دستور وتشكيل حكومة جديدة بأسماء وزرائها، قائمة على المحاصصة الطائفية، لهو أمر ينذر بكارثةٍ أخرى، حتى لو كان أداة للتضليل الإعلامي فقط، بما يضمر في بنيته من طائف جديد.
على من كانوا معارضين يساريين، أو علمانيين وديمقراطيين سابقًا، و”ضاعت تضحياتهم”، على الرغم من صدقها وحقيقتها، أن يفيدوا من تلك التجربة القاسية، أن يتلمسّوا مكامن الضعف أو الخلل التي أقصتهم عن القاعدة الشعبية، أو جعلت نشاطاتهم وحراكهم السياسي مثل الحفر على الرمال، لم تترك أثرًا في الوعي الشعبي، وإلا لماذا كان التحول الباكر في عمر الثورة إلى الأسلمة؟ ابتداءً من أسماء الجمعات أيام التظاهرات الشعبية، مرورًا بأسماء الكتائب التي ظهرت باكرًا بعد التحوّل إلى العسكرة، ثم إلى ما آلت إليه الأوضاع بسيطرة عسكرية وسياسية على الصراع؟ هذا لا يعني إغفال الأسباب الأخرى، والتي في مقدمتها الرد الباكر للنظام بالعنف على التظاهرات السلمية، ودخول أطرافٍ مساندة له، وأخرى داعمة للفصائل المعارضة، كلها سعت إلى تحويل الحراك الشعبي الطامح إلى الديمقراطية إلى عنف مسلح بدوافع طائفية، كذلك السعي الخارجي إلى أسلمة الثورة.
العنف غير المسبوق، والشراسة التي أديرت بها الحرب السورية، والأثمان الباهظة على الصعيد الإنساني التي دفعها الشعب السوري، لا بد أنها تركت براكين في الصدور على أهبة الانفجار، وهذه النيران التي تحرق الصدور، من الصعب أن تترك الوعي سليمًا من لسعتها.
كيف يمكن الإمساك بيد الشعب لإرشاده إلى طريق الدين الشعبي الإيماني، بطقوسه التي مارسها عقوداً، تشاركت فيها كل مكونات الشعب الدينية والمذهبية، كيف يمكن استئصال الشكل الإسلاموي الذي فرضته الحرب على الشعب السوري، المرتبط بالإسلام السياسي، بأطيافه المتدرّجة من العنيف إلى الأكثر عنفًا؟
ليس فقط الإسلام السياسي، بمفهومه الخاص المرتبط بالتنظيمات الإسلامية، بل الدين السياسي الذي خلّفته الحرب، صارت غالبية المكونات السورية المنتمية إلى طوائف ومذاهب متنوعة ومختلفة تمارس الدين بطريقة متعصبةٍ إقصائية، وصار التديّن أبعد ما يكون عن الإيمان، ارتبط بالصراع الوجودي المسيّس، وصار اللوثة الأخطر في وعي الغالبية. لا يمكن لوم البشر المكلومين المنكوبين المهجّرين المطرودين المشرّدين المهدّدين بوجودهم على تردّي وعيهم الوطني، فالوطن هو الأمان، أمان الحياة، هو الملجأ هروبًا من الموت، والزلزال السوري أسّس للموت الجبان المتغوّل الذي هان ورخص على الضمير العالمي.
مثلما كان هناك افتراق بالإكراه والعنف والبطش من جهة، وبعثرات التجربة من جهة أخرى في نضالات العلمانيين والديمقراطيين واليساريين قبل الحراك، كان افتراق بين المعارضة ومتطلبات الشعب الثائر.
انفصال القوى العلمانية والديمقراطية عن القاعدة الشعبية، في لحظات معاناتها من الظلم والقمع، وبعدها العنف والقتل، ترك الشارع للتنظيمات الإسلامية، فأحلّت الدين السياسي محل الدين الشعبي، وصارت المهمة أصعب. إنها المهمة الأكثر احتياجًا لها، إذا أرادت القوى المنوط بها الأخذ بيد الشعب إلى بداية الدرب الذي يؤدي إلى بناء صحيح لوطنٍ دفع الشعب السوري أثمانه باهظة، ليست مسؤولية النخب العلمانية المعارضة فقط، بل النخب المصنّفة موالية، أو التي صمتت تحت ظل خيبتها. إنه استحقاق الوطن والمواطنة.
المصدر : العربي الجديد