توجّهت روسيا برسائل عدّة بالغة الدلالة إلى العلويين في 30 تموز (يوليو) الفائت، إذ قرّرت أن تشمل احتفالاتها بيوم البحريّة الروسيّة عرضاً عسكرياً صغيراً أقيم في مدينة طرطوس على الساحل السوري، وهي المدينة التي تضمّ أغلبية عددية من العلويين وتعدّ واحدة من أهم معاقل أنصار الأسد.
لكنْ، قبل أن تكون رسائل الاستعراض موجّهة إلى العلويين أنفسهم كجماعة، لا يمكن تجاهل رمزيّة الحدث على المستويين، المعاصر والتاريخي، فمن ناحية يكرّس الحدث أفضليّة روسيا ونفوذها العسكري في سورية والذي بات العالم يتعامل معه كأمر واقع، ومن ناحية أخرى يعيد هذا العرض تقليداً قديماً في استعراضات القوى البحرية على شواطئ المشرق، تلك الاستعراضات التي كانت تقوم بها القوى الأوروبية في رسالة إلى السلطنة العثمانية تعلن فيها التزامها حماية الأقليات المسيحية المشرقية، فإذا صحّ القول بأنّ أحد محرّكات النشاط الروسي في المنطقة سياسة امبراطورية جديدة ترمي إلى إعادة الاعتبار لدورها التاريخي واستئنافاً للمسألة الشرقية، بات من الواضح أنّها تعمّدت هذه الاستعادة الرمزية التاريخية، سيّما أنّها باتت تعتبر نفسها، في شكل أو آخر، وريثة أوروبا في حماية مسيحيي المشرق، فضلاً عن كونها، وللمرة الأولى في التاريخ، باتت بمثابة الحامي لجماعة الأقلية العلويّة.
وبالانتقال إلى الجانب المتعلق بالعلويين من الرسالة الروسية، تمكن ملاحظة أنّ العرض كان أشبه باحتفال غير رسمي طرفاه دولة عظمى وجماعة أهلية، بدلالة ضعف الحضور الرسمي والتغطية الإعلامية. وهذا ما انعكس على الجمهور المؤيد للنظام من العلويين، الذي بدا وكأنّ محدوديّة الاستعراض لم تأتِ وفق الصورة التي تخيلها ولم تلهب حماسته، هو الذي اعتاد استعراضات حزب الله الإعلامية. لكنْ، إذا كان مقصوداً هذا الحجم وهذا التقصير الإعلامي من الجانب الروسي، فذلك رغبة في أمور عدّة على الأرجح، من بينها أنّه يفسح المجال للمخيّلة الجماعية ويحرضها على العمل ونسج القصص، وهذا ما يتيح للروس معرفة أدقّ، إلى حدّ ما، بمدى قبول العلويين لهم في هذه المرحلة وما هو سقف توقعاتهم منهم. إضافة إلى ذلك، قد تكون روسيا تحاول اللعب على سيكولوجيّة الجماهير هنا، ذاك أنّ قلّة ظهور «البطل» ودلالِه على جمهوره المتماهي مع صورته ونموذجه يخلق نوعاً من التعطّش الدائم لرؤيته، وهذا ما يُحكم الرابط بين الطرفين. فإذا صحّ ذلك فإنّ روسيا ستكون مؤهّلة للبتّ في مصير العلويين مستقبلاً أثناء مرحلة التسويات النهائية، وتحديداً في مرحلة ما بعد عائلة الأسد التي ستكون روسيا قد سحبت البساط العَلَويّ من تحتها.
إلى ذلك كلّه، ربما أرادت روسيا من محدودية حجم الاستعراض أن تُخلي مساحة وجدانية للجيش السوري، انطلاقاً ربما من إدراك التناقض الذي يعيشه أنصار النظام ما بين رغبتهم في الحماية وما بين تعلّقهم الواهم والرمزي بجيش نظامهم الذي أنهكته الحرب وقضت على فاعليّته. وهذا ما يعني أنّها، وعلى رغم كثافة وفاعلية حضورها العسكري ونفوذها السياسي في المرحلة الراهنة، تفضّل أن تتقدّم بحذر في أي علاقة أو تماس مباشر مع الجماعات الأهلية. بيد أنّ سياسة روسيا وموقعها المتأخّر في سلّم الديموقراطية وحقوق الإنسان لا يسمحان بأن تفسّر ذلك على أنّه احترام وتقدير للجماعات، بل إنّه، في أفضل الأحوال تفصيل في مشروع انتداب طويل على سورية.
المصدر :الحياة