تمثل المستودعات المائية العميقة والسطحية مخزونا طبيعيا ذا أهمية بالغة للحياة في أغلب مناطق العالم، وعلى هذه الثروة الطبيعية يعتمد مئات الملايين كليا أو جزئيا لتأمين شربهم ونشاطهم الزراعي والصناعي، وهم يستخدمون المياه الجوفية في كثير من مناطق العالم على نحو أسرع من تجديدها. لذلك كان لابد من تقييم هذه الثروة وتشخيص حالتها وتحديد المخاطر التي تتعرض لها في ظل هذا الاستنزاف المفرط من الإنسان، وهو ما قامت به دراسات علمية عديدة.
فقد تضمنت دراسة نشرت مؤخرا بالدورية العلمية “نيتشر جيوساينس” وضع أول خارطة عالمية لمصادر المياه العذبة تحت السطح مع تحديد عمقها وامتداداتها. وقدرت كمية هذه المياه بـ23 مليون كيلومتر مكعب. وهذه الكمية لو وزعت على سطح الأرض بالتساوي ستكون بحرا بعمق 180 مترا.
ومن المعلوم أن المياه الجوفية توفر أكثر من 98% من المياه العذبة غير المجمدة وتوفر ما بين 25 و40% من مياه الشرب في العالم. وترتبط الكثير من المستودعات القريبة من السطح ارتباطا وثيقا بأنظمة المياه السطحية. ويمكن تجديدها مباشرة بارتشاح مياه المطر وأحيانا بالمياه الجارية على السطح.
غير أن المياه الجوفية ليست كلها قابلة للتجديد، فخزانات المياه “الأحفورية” التي تشكلت منذ العصور القديمة لا تتجدد.
وتوصلت الدراسة إلى استنتاج هام وهو أن نسبة المستودعات المائية التي يقل عمقها عن كيلومترين تحت السطح -والتي تجددت مياهها منذ أقل من خمسين عاما- لا تتجاوز 6% أي نحو 0.35 كيلومتر مكعب فقط. ويوجد أغلب هذه المياه المتجددة في المناطق المدارية والجبلية كحوض الأمازون والكونغو وإندونيسيا وحول سلسلة جبال الروك والإنديز الأميركية
مناطق الاستنزاف
وفق دراسة سابقة يعيش 1.7 مليار شخص في العالم في مناطق تصنف مياهها الجوفية بكونها مهددة أو تتعرض لاستغلال مفرط بسبب الري. وأبرز هذه المناطق تلك المتاخمة لجنوبي بحر قزوين -شمال إيران- والحوض السفلي لنهر الهندوس في الهند والحوض العلوي لنهر غانج في الصين ومنطقة الدلتا في مصر ومنطقتا شمال وجنوب الجزيرة العربية.
كما أن هذه المياه تتعرض لاستغلال مفرط في أماكن أخرى من العالم، لكن بدرجة أقل في حوض نهر الدانوب وسهول أميركا الشمالية.
وقد خلصت دراستان نشرت نتائجهما في يونيو/حزيران الماضي إلى أن النشاط البشري يقود إلى استنزاف متسارع لنحو ثلث مخزون المياه الجوفية في أكبر الاحتياطات المائية الجوفية في العالم، وعلى رأسها طبقة المياه الجوفية العربية.
وقد درس العلماء 37 من أكبر مستودعات المياه الجوفية للأرض بين عامي 2003 و2013، وصنفوا 13 من هذه المستودعات المائية الجوفية على أنها “فائقة الإجهاد” أو “مجهدة بشكل كبير” مما يعني أنها تتعرض لاستنزاف دون أي تجديد طبيعي للتعويض عن الاستخدام.
وكانت أكثر مستودعات المياه الجوفية استنزافا هي طبقة المياه الجوفية العربية التي تقع تحت المملكة العربية السعودية، وتمتد إلى اليمن، وعُمان، والإمارات، والكويت، والعراق وسوريا والأردن، واعتبرت بأنها أكثر مصدر “فائق الإجهاد” في العالم بمعدل نضوب يبلغ نحو عشرة ملليمترات سنويا مع عدم وجود أي تجديد طبيعي.
أما معدل نضوب خزان الحجر الرملي النوبي -أحد أكبر مستودعات المياه الجوفية بالعالم والذي يقع تحت كل من مصر وليبيا والسودان وتشاد- فقد كان الأدنى مقارنة بطبقات المياه الجوفية المستنفدة العربية الأخرى، ويبلغ معدل استنفاده 2.9 ملليمتر في السنة.
في حين بلغ معدل نضوب خزان مرزق-دجادو الجوفي الواقع تحت ليبيا والجزائر والنيجر مستوى متوسطا، وهو 4.3 ملليمترات في السنة.
وقد قدمت هذه الدراسات العلمية للرأي العام العالمي الحقائق التي تصف الأشياء كما هي: مخزونات ضخمة مهددة بالنضوب وغير متجددة. ونضوبها قد يمثل كارثة عالمية في ظل التغيرات المناخية التي تزيد الطين بلة، خاصة وأن الدراسات الأخيرة في ما يخص مستقبل الموارد المائية في العالم تتوقع بأن يكون ثلثا مناطق العالم من دون مياه كافية ابتداء من سنة 2030.
ويتوقع أن يتسبب هذا الأمر بتسارع وتيرة الاستنزاف الذي سيؤدي بدوره تدريجيا إلى تسرب المياه المالحة في المستودعات المفرغة أو إلى هبوط أرضي. هذا فضلا عن إمكانية نشوب نزاعات بين الدول حول هذه المصادر التي تمتد في أغلب الأحيان تحت أكثر من دولة واحدة.
الحلول المطروحة
وعلى ضوء هذه الاستشرافات القاتمة، طرح الخبراء العديد من الحلول خاصة ما يتعلق منها بالاعتماد على مياه البحر بعد تحليتها أكثر فأكثر خاصة وأن مجال الزراعة يستنزف ما يزيد على 70 %عالميا، و85% بالدول العربية من الموارد المائية. مع ضخ هذه المياه في خزانات المياه الجوفية لاستعادة مستوياتها الطبيعية. كما طرح آخرون إمكانية ضخ المياه المستعملة في جوف الأرض لمساعدة هذه الخزانات على استعادة عافيتها.
ولئن بدت هذه الحلول ممكنة لبعض الدول ذات الإمكانيات المادية الهامة، كدول الخليج التي بلغت شوطا متقدما في مجال تحلية المياه، فإن أغلب الدول النامية ليس في إمكانها إنتاج مياه الشرب من البحار نظرا للتكلفة العالية لعمليات التحلية.
كما أن ضخ المياه في الخزانات الجوفية خاصة منها العميقة يحتاج إلى تقنيات وتجهيزات عالية الكلفة. لكن حلا آخر يبدو في متناول الجميع يمكن أن يؤجل الأزمة إلى حين ويخفف الضغط على هذه الثروة المهددة بالنضوب، وهو ترشيد استهلاك المياه الذي يمكن أن يوفر لوحده 30% من إجمالي الكميات المستعملة التي تذهب هدرا طبقا للعديد من الدراسات.
المصدر : الجزيرة