تستشعر الأوساط السياسية السورية اقتراب لحظة التغيير، في ما يتعلق بكسر ما في بنية النظام السوري، عبر اتفاق سياسي وفق مبادئ جنيف 1، يعطي صلاحيات واسعة لحكومة مشتركة بين النظام والمعارضة، أو باستمرار تآكل النظام حتى سقوطه.
تبدو المواقف السياسية لهذه النّخب متأرجحة بين متحمّس إلى تقدّم المعارضة باتجاه إنهاء النظام، وآخرين شامتين به، فضلا عن تصعيد طائفي جديد قديم ضد مؤيدي النظام من الأقليات وتحديدا العلويين. أما الشعب فهو في واد آخر؛ بات مبعدا عن دائرة الفعل ولا دور له في كل ما يحدث، عكس ما كان الأمر عليه في السنة الأولى للثورة.
هناك محاصرون ينتظرون لحظة التغيير لفك حصارهم والعودة إلى ممارسة حياتهم، وهناك من له معتقلون ومغيبون في سجون النظام وينتظر معرفة مصيرهم. وهناك مهجّرون خارج الحدود ينتظرون لحظة العودة. لكن بعيدا عن رأي النخب، هل هذه المطالب هي ما يحلم به السوريون اليوم، وهل يريدون سقوط النظام من أجلها فقط؟
يمكن ملاحظة ابتعاد الشريحة الشعبية في سوريا عن الثورة، وقد كانت هي أساسها التي ضمنت جذريّتها. وقعت الثورة السورية في أزمة معقّدة، ولم يكن باستطاعة الناشطين استيعابَها والتغلّبَ عليها لأسباب عديدة: أوّلها، همجية النظام في استخدام العنف العشوائي، ما جعل الجزء الأكبر من الحاضنة الشعبية للثورة يهجرها، خاصة مع استعصاء إيجاد مخرجٍ وطولِ أمد الصراع.
وثانيا أن النظام ضرب ناشطي الثورة الأوائل، حيث اعتقل أغلبَهم وقتل كثيرا منهم، ولاحقا أكملت الجهادية ما بدأه النظام بحقّ الناشطين، فيم هاجر الباقون هربا من الاعتقال. وحلت محل هؤلاء شريحة أخرى من الناشطين أقل خبرة وأكثر بساطة، وبالتالي أكثر انجرافا نحو ردود الأفعال الانتقامية.
ثالثا الجهادية التي أحكمت السيطرة على الثورة بفعل التمويل، وأنهت أي تواجد للكتائب المعتدلة في مناطق سيطرتها، كما أن تكاثر هذه التنظيمات وتطرفها، زاد يأس الشعب من الثورة، حيث أظهرت الكتائب الجهادية دكتاتورية تضاهي دكتاتورية النظام، واستبدادا دينيا لم يخلُ من تقديس القائد كما حال زهران علوش في الغوطة.
رابعاً لم تتمكن الثورة من خلق بديل سياسي، فالتنسيقيات الأولى التي أنشأها النشطاء الأوائل تم إنهاؤها بفعل الاعتقال والقصف، هذا ما فتح المجال للمعارضة المكرسة لأخذ دور الممثل السياسي، بدعم من الدول الإقليمية؛ فكان المجلس الوطني الذي سيّره الإخوان والأتراك والقطريون، ثم الائتلاف الوطني، إضافة إلى تشكيلات أخرى لم تحظَ بتأييد شعبي. هذه المعارضات أخذت دورا بائسا في الثورة، فركبتها واستثمرت فيها دون أن تراهن عليها؛ بل راهنت على الدعم الدولي لها لإسقاط النظام وتنصيبها محله.
وهذا ما يفسِّر نشاطها الأخير، حيث تسعى الدول الإقليمية إلى إعداد البديل السياسي عن النظام المتهالك، وهو ما يفسر تقارب تيارات معارِضة كانت وسطية تنشط في الداخل من الائتلاف الوطني، كهيئة التنسيق، وتيار بناء الدولة، الذي يُظهِر المؤتمر الصحفي لرئيسه لؤي حسين مع خالد الخوجة رئيس الائتلاف أنّ الأول، بخطابه وباستبعاده لعلم الثورة، يسعى إلى مغازلة وتمثيل الشرائح التي أيّدت النظام أو انكفأت عن تأييد الثورة بسبب أسلمتها. وأن الثاني أراد توسيع الائتلاف ليضمن تمثيل تلك الفئات بالتحديد.
خامسا، لا يأبه السوريون لما يقال عن اقتراب لحظة التغيير، بسبب تعرّضهم إلى خيبات أمل متعددة، بما يتعلق باقتراب الحل وبخروج المعتقلين. وهم اليوم يعيشون لحظَتهم، وينتظرون ما ستَفعل بهم المعارضة والدول الداعمة والمسيطرون على ساحات القتال، بعد كل ما فعله النظام.
سادسا، الشعب بات منهمكا في تأمين قوت يومه مع تصاعد الغلاء، والبعضُ جعل تحديد موقفه السياسي شديد التعقيد، كانضمام معارضين كثر إلى ميليشيا الدفاع الوطني للحصول على دخل، وانضمام آخرين إلى الكتائب المتطرفة للحصول على السلاح وعلى قوت يومهم.
كل ما يحاك هو خارجٌ عن إرادة السوريين، بمن فيهم الموالون للنظام. وبالتالي لا مناص من العودة إلى الفعل الثوري مع بدء تطبيق لحظة التغيير. ولن تكون عودةً عفوية، بل مشروطة بالكثير من التنظيم وتحديد الأهداف والأولويات. هذا غير ممكن دون عودة ناشطي الثورة للسعي إلى التغيير والإعداد لتلك اللحظة، وحسم الخلافات، وصولا إلى تشكيل مؤسسات ثورية تقود النضال مجددا.
العرب اللندنية _ وطن اف ام