ماذا نفعل بصور القتل والانتهاك الوحشي والإذلال الذي تعرض له السوريون على مدار أربع سنوات من المذبحة المستمرة، هل نقف مع نشرها وتعميمها، وننظر بعيون مفتوحة إلى الأجساد التي مورس عليها أبشع أنواع القسوة، حتى نحمي أنفسنا ومجتمعنا من تكرار المذبحة، أم لا نسمح بنشرها، ونوغل في المزيد من الوحشية في انتهاك خصوصيات الضحايا؟
هل الجرائم في حق الضحايا مسألة عامة، أم أنها مسألة تتعلق بحقهم في حفظ كرامتهم، بحيث لا نشر من دون موافقتهم، أو موافقة ذويهم، بالتالي، هي مسألة خاصة وفي غاية الخصوصية؟ وما جدوى نشر الجثث المقطعة الأوصال؟ هل غيّر أو يغيّر من مواقف الآخرين؟ وهل هناك مشروعية، أصلاً، لنشر صور كهذه؟ هل للضحايا كرامة بعد كل الانتهاكات التي ارتكبت في حقهم، ألا تفضح صورهم وحشية الجلاد، أم أن النشر يوغل في انتهاك كرامة الضحايا؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها على الواقع السوري، اليوم، بسبب “متحف القتل” الذي يشيده كل من النظام السوري و”داعش” وأمثالهما في الجغرافيا السورية المستباحة. وهي ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها هذا الموضوع على النقاش، فقد حصل، وإن بصورة أقل ملحاحية مع متاحف القتل العراقية واللبنانية والفلسطينية. ولأن متحف الموت السوري اليوم، مفتوح على مصراعيه، وإمكانية توسع المذبحة إمكانية واقعية، فإن السؤال، اليوم، أكثر إلحاحاً مما مضى. والسؤال مطروح، أصلاً، لإيجاد أنسب السبل للدفاع عن الضحايا، وتحصين المجتمع، من أجل منع تكرار ما يحصل في المستقبل، السؤال بصرف النظر عن الإجابة، هو دفاع عن الضحايا، أولاً وأخيراً.
بصراحة، يبدو أن كلاً من وجهتي النظر التي تعالج السؤال عما نفعله بصور الضحايا فيها وجاهة كثيرة. ولكن شخصياً، عندما انتقلت من السؤال، بحمولته النظرية، إلى الواقع، كان للسؤال وقع آخر. ماذا لو أني، وأنا أحدق في الصور، فجأة تقفز صورة أحد ابنيَّ، جثة مُنتهكة ومُشوهة ومُهشمة ومُجوعة؟ أرعبني السؤال، لأنه لم يكن افتراضياً بالنسبة لي (هو كذلك بالنسبة لجميع السوريين)، فقد كان من الممكن جداً أن أكون أنا، أو أحد أولادي، أو أحد إخوتي، أحبتي، واحداً منهم. وعلى الأقل عرفت العديد منهم، ممن عادوا جثثاً مشوهة، وممن لم يعودوا، وطلبت أجهزة الأمن من ذويهم أن يذهبوا بأنفسهم لشطب أولادهم من السجل المدني (يا لوقاحة الجلاد).
نعم، القتل والانتهاك، قضية عامة، لكن القتيل والضحية، قضية خاصة، كيف التوفيق بين عمومية الحالة وانتسابها إلى العام، ما يجعلها قابلة للنقاش والمعالجة السياسية والفكرية والفنية، والى كونها خصوصية تتعلق ببشر محددين، لهم حياة خاصة وعائلة يجب احترام خصوصيتها؟
يكتب ياسين الحاج صالح حول القضية تحت عنوان “تحديق في وجه الفظيع”، “يجب أن نرى لنتناقش”، ويضيف “سوف نكون في وضع أفضل من أجل التمثيل والعملية التأسيسية، والتعافي، إن واجهنا الفظاعة ونظرنا في وجهها، وليس إن تفاديناها”.
وبما أن الوضع السوري استثنائي، فهو يتطلب معالجة استثنائية، بحكم ما يسميه الحاج صالح “الطابع التأسيسي للأزمة السورية”، فهي لا تسمح بـ”التفكير بمنطق أوضاع عادية”، ويعتبر الحاج صالح “أن الأجساد المحطمة هي أحد وجوه تمرد من أجل استعادة الكرامة. وهي تستحق أن تمثل في الفن وفي الفكر وفي الثقافة، ويجب أن تمثل”. ويصل إلى السؤال البليغ “هل هي إهانات لأنها صورت، أم لأنها وقائع حدثت؟”، ويجيب عن سؤال نشر الصور بالقول “… إذا تكتمنا على وقائع الفظاعة وصورها، فإن أول من ينجو هو منتج الفظيع وممارسه، وليس ضحاياه”، إنه منطق قوي لمواجهة الجلاد والدفاع عن الضحايا، بكشف جرائمه، وجهة نظر تستحق التقدير والاحترام، لكنها، أيضاً، تستحق النقاش.
لا يجوز نشر الفظيع، بذريعة أنه يهدف إلى قضية كبرى، فليس هناك قضية أكبر من حقوق الإنسان الفرد
يرد محمد علي الأتاسي على ياسين الحاج صالح تحت عنوان “الكرامة في حضور الفظاعة”، يكتب “كيف نعطي لأنفسنا الحق بأن ننشر صور ومقاطع فيديو لأناس وبشر مأخوذة رغماً عنهم، وفي أوضاع يندى لها الجبين، ومن دون أن نكلف أنفسنا حتى سؤالهم إذنهم؟ من أعطانا هذا الحق، وكيف، ولماذا؟”. ويذهب إلى أبعد عندما يكتب “ما يتناساه أصحاب هذا المنطق (مؤيدو نشر الصور) أن هذه الحريات يحدها في أكثر دول العالم ديمقراطية، حدود وقيود تتعلق بحقوق الفرد الشخصية وبحرمة حياته الخاصة وبحرمة جسده وحرمة موته وحرمة صوره”.
نعم، مفصل الإجابة عن السؤال هو الحقوق التي تحني فردية البشر، فمطلب الحرية أصلاً قام من أجل حماية هذه الفردية، وصيانتها، فالحرية مطلوبة من أجل حماية فرديتي في وجه التعسف والانتهاك. وبذلك، لا نحتاج أن نرى، حتى ندين الفظيع الذي يصنعه الجلاد. فالانتهاك، أي انتهاك، مدان من موقع الحرية والحقوق. بالتأكيد الإهانات وقعت لأن مجرماً ارتكبها، والجرائم تبقى جرائم، صورت أم لا. ولا أعتقد أن استثنائية الوضع السوري تدفع إلى معالجته بصورة استثنائية، بوصفه حالة تأسيسية، بل على العكس، تأسيسياً الحالة السورية تجعل التعامل مع الاستثنائي بطريقة طبيعية، هو الشكل الأمثل للرد على القبيح والفظيع والدموي.
انتهاك الجلاد حياة الضحايا وأجسادهم لا يجعلها مشاعاً ينتهكه الجميع، بوصف هذا النشر يشكل كشفاً لجرائم الجلاد. النشر كانتهاك يزيد من آلام الضحايا، ولا يعزز قضيتهم، ولماذا علينا أن ننشر آلامنا، لنكسب ود الآخرين؟ لماذا علينا أن تبقى حياتنا معروضة كمتحف للمآسي، لنقول للعالم إننا على حق؟ إنه نوع من ممارسة الدونية تجاه الآخر المتعالي، ينظر إلينا من فوق، ويستعرض آلامنا وفظاعات تقع علينا، ويحتاج إلى المزيد من البراهين ومن معارض الألم، حتى يقر بألمنا، بالتالي، يقر بحقنا أن نعيش بشراً عاديين.
لا أعتقد أن هناك ترابطاً عضوياً بين التكتم على الفظاعة والتكتم على الصور، فمن الممكن التكتم على الصور من دون التكتم على الفظاعة. والتكتم على الصور لا يجعل منتج الفظيع ينجو، وعلى الأقل بشار الأسد وأركانه ينجون إلى اليوم، على الرغم من الدفق الهائل لصور الفظاعة عن آلة القتل السورية، داخل المعتقلات وخارجها.
ببساطة السوريون بشر، ولهم حقوق البشر، هذا طبيعي، وهذا الطبيعي هو الرد على العسف والانتهاك التاريخي الذي تعرض له السوريون من سلطة غاشمة، استباحت حياتهم خمسة عقود. الطبيعي أن يحصل السوريون على حقوق البشر الطبيعية، وأولها حقهم في أن تكون حياتهم ملكهم، وليست مكاناً لتلصص المخابرات والإعلام ومدعي الانحياز إلى القضية السورية الكبرى.
لا أعتقد أن القضية مفاضلة بين وجهتي نظر، إنها قضية حقوق، القضية مكانة الإنسان في المعادلة، إذا كنا نرى أنه يملك الحقوق الطبيعية، فإن الانتهاك جريمة، والانتهاك/ الجريمة لا يبرر مزيداً من الانتهاك بنشر صور الانتهاك الفظيعة. طالما أننا نرى أن للضحية الحقوق التي تحميها من أي انتهاك، حتى لو كانت الضحية نفسها تعيش تحت سلطة غاشمة اعتباطية. وبالتالي، لا يجوز نشر الفظيع، بذريعة أنه يهدف إلى قضية كبرى، فليس هناك قضية أكبر من حقوق الإنسان الفرد، وهنا يكمن جوهر القضية، وهذه الحقوق هي جوهر الرد على السؤال، ماذا نفعل بصور الضحايا؟
العربي الجديد _ وطن اف ام