ثار تحرير بلدة تل أبيض، القريبة من الحدود السورية التركية، وطرد “داعش” منها، السؤال عن معنى المناطق المحررة، أو ماهية التحرير بالنسبة للسوريين، وهو السؤال الذي ظلوا ساكتين عنه منذ صعود الصراع المسلح والتحول نحو انتزاع كثير من المناطق من يد النظام، منذ يونيو 2012.
السكوت عن هذا السؤال كان يضمر فكرة مفادها أن الأولوية هي للصراع مع النظام بهدف إسقاطه، وأن كل الأمور تهون في سبيل هذا الهدف. ولعل ذلك يفسر أن أطرافا عديدة في الثورة السورية ورغم مواقفها السلبية من الجماعات الإسلامية المسلحة، والرافضة لجبهة النصرة مثلا، ظلت تنظر بإيجابية لما تحرزه هذه الجماعات من نجاحات عسكرية في مواجهاتها مع جيش النظام والميليشيات التي تعمل معه، كما ظلت تطلق صفة الأراضي المحررة على المناطق التي تخضع لسيطرتها (طبعا “داعش” خارج هذا الحساب).
اللافت أن هذا حصل رغم أن قوى المعارضة السياسية لم تحاول يوما أن تنقل مقراتها إلى هذه المناطق، لأنها تدرك أن الجماعات المسلحة المسيطرة تشتغل وفق أجندة أخرى، وهذه بدورها لم تقصر في التوضيح للمعارضة السياسية بأنه غير مرحب بها، بل إنها تعمدت تأكيد ذلك بتنكيلها بالنشطاء أو بتحديد حركتهم، أو بطردهم خارج مناطقهم. الأهم من ذلك أن هذه الجماعات لم تثبت أهليتها في إدارة المناطق التي تخضع لسيطرتها، فضلا عن أنها كشفت في ممارساتها عن ضيق أفق وروح استبدادية في مواجهة المجتمع، ما أفقد التحرير معناه، وأضعف صدقية الثورة وأفاد النظام، الذي يقوم بحصار هذه المناطق وقصفها.
هذه الجماعات بينت في مختبر الممارسة عن نزعة تسلطية، وعن ميل لفرض سلطة الأمر الواقع بقوة السلاح على المجتمع، وقد ترافق ذلك مع وأد تجارب اللجان المحلية المنتخبة، وتحول هذه المناطق إلى بؤرة لنمو الجماعات المتطرفة، والغريبة بمفاهيمها عن مجتمع السوريين، وبواقع تشرذم التشكيلات العسكرية، وصبغها بالطابع المذهبي.
طبعا، هذا لا يمنع أن ثمة ظواهر إيجابية، وأن هذا الأمر يتفاوت بين منطقة وأخرى، حسب طبيعة الجماعة المسلحة، وأن الكثير من السلبيات ناجم عن ضعف السياسة في المجتمع السوري، كما عن ممارسات النظام الذي يتحمل بقسوته المسؤولية عن استشراء العنف عند السوريين على كافة المستويات.
القصد من كل ما تقدم التوضيح بأن مشكلة المناطق المحررة، أو مشكلة إدارتها، هي قديمة، وتشكل إحدى معضلات الثورة السورية، وأن طرح السؤال في هذه المرحلة، بمناسبة تحرير تل أبيض، يفتح على مشكلة أخرى، وهي سيادة المعايير المزدوجة، وعدم الإجماع على صورة سوريا المستقبل. بكلام أوضح المشكلة تكمن في سكوت البعض عما يجري في المناطق المحررة التي تسيطر عليها الجماعات الإسلامية المسلحة، وعدم سكوتهم عن المشكلات أو الثغرات التي صاحبت تحرير تل أبيض، علما أنها من ذات النوع. كما تكمن المشكلة في نزعة التعصب الهوياتي، سواء الطائفي أو المذهبي أو القومي، وهو بمناسبة تل أبيض ظهر بطابعه القومي، أكراد مقابل عرب، وبالعكس، باعتبار أن قوام القوة التي حررت البلدة هي من الأكراد، الذين اتهموا بأنهم أجروا تطهيرا عنصريا، فيها.
معضلة المناطق “المحررة”، هي معضلة الثورة السورية ذاتها، وهي ناجمة عن ضعف الإجماع السياسي على شكل سوريا المستقبل، وعن الافتقاد للموارد البشرية والإمكانيات المادية، كما عن تقصد النظام الإمعان في حصارها وتشريد سكانها، ويأتي ضمن ذلك سوء الإدارة، والافتقاد للحكمة في التعامل بين السلطات “الثورية” الجديدة والبيئات الشعبية الحاضنة لها، كما سبق وذكرنا.
آن للسوريين أن يجيبوا على سؤال معنى المناطق المحررة، وأن يشتغلوا على تعزيز إجماعاتهم السياسية، وعلى بلورة المؤسسات السياسية والخدمية التي تسهم في إدارة أوضاعهم، بدلا من ترك الأمور للمنازعات الأهلية التي لا تفيد إلا في إطالة عمر النظام.
العرب اللندنية _ وطن اف ام