تمثّل الثورة نوعاً من الصراع الشديد الاحتدام على نمط الدولة، وتنقلب حين تعمّها الفوضى إلى تهديد يعصف بوجودها. ليست الحدود بين الثورة والفوضى واضحة دوماً، فالثورة قد تنقلب إلى فوضى، إن كانت متعددة القيادات أو دون قيادة، أو إذا افتقرت إلى خطط توجّهها وتشخّص المراحل التصاعدية والمتعاقبة التي يجب أن تمر بها كي تنتصر، وكان القائمون عليها لا ينتمون إلى حَمَلَتها الذين ينخرطون في الصراع من أجل انتصارها، ويضحّون في سبيل تحقيق أهدافها بعد انتصارها، وأخيراً، إذا نجح الطفيليون الذين يتسلّقون عليها في ربط أنشطتها بمصالحهم الشخصية، أو بإرادات خارجية ومتناقضة.
بالمقابل، يمكن لفريق ثوري منضبط وخبير تحويل الفوضى إلى ثورة، في حال نشبت عقب انهيار مباغت في السلطة، أو بسبب غضب كتل بشرية كبيرة على حكامها وأوضاعها، أو وقوع هزيمة عسكرية تقوّض الحكم في بلد من البلدان وتضعه على حافة التفكّك، وأخيراً، إذا ما تراكمت تبدّلات اجتماعية وعبّرت عن نفسها من خلال بروز قوى مجتمعية وسياسية تعمل لتحرير المجتمع من فئات طفيلية أو حاكمة، تكبح تقدمه وتقاوم إقامة بنية سياسية فيه، تتّفق وبنيته الطبقية الجديدة.
نشبت الثورة السورية من أجل تغيير نمط الدولة، وقادتها الفئات التي تولّت أمورها، بتوجيه ودعم من قوى خارجية ترفض الثورة كمبدأ وكممارسة، إلى فوضى فاقمها عجز” قيادتها” عن فهم ما يجري واستباق مخاطره، بينما تعاظم انزياحها عن أهدافها بفعل دخول قوى معادية لها إلى ساحتها، بدعم عربي/ إقليمي/ دولي أغرقها في أوضاع أفقدت المنخرطين فيها السيطرة على مجرياتها، ووضعتهم في خدمة مصالح خارجية وشخصية، عوض أن يضعوا كل شيء في خدمتها. بذلك، تحوّل النضال في سبيل نمط جديد من الدولة يلبي مطلب الحرية المجتمعي إلى فوضى ساعدت النظام في سعيه لإلغاء الدولة والشعب، وأحلّت محلهما “تكوينات عصاباتية” جسّدها عند قاع المجتمع أمراء حرب محليون، مقتتلون/ متناحرون، بينما تم في الوقت نفسه الإعلان عند القمة عن “أمبراطوريات” عابرة للدولة الوطنية، أمسكت بها مجاميع قَتَلة انضوت في تنظيمات إرهابية حسنة التمويل والتسليح، معادية لمبدأ الوطنية وممارساتها وقيمها، قالت بصراحة إنها ستدمر الدولة الوطنية بالقوة، وستقتل أتباعها وأنصارها وتنشر قدراً من الفوضى المنظمة والمسلحة يتكفّل بالقضاء عليها كدولة كفر وطاغوت.
لا عجب أن تتسابق إثنيات وطوائف وتكوينات متنوعة إلى نهش الدولة الوطنية وتناتشها جزءاً بعد آخر، وأن تظهر في كل مكان بدائل لها، ويطالب كل من هبّ ودبّ بحصّة من أرضها وسمائها وبحرها، ويجاهر بحقه في جعل “دولته” نظيفة عرقياً وسياسياً، وفي ترحيل وطرد من لا يجوز له الانتماء إليها أو العيش فيها من مواطنيها. في أجواء كهذه، لا يستغرب أن تنجب الفوضى مزيداً من الفوضى، وأن يتنكّر الجميع لحقوق الجميع، وأن يغيب الآخر، الذي يصير اسمه “العدو”، وأن تظهر أخيراً طرق مبتكرة للتنكيل به وطرده من بيته وأرضه، وفي النهاية لقتله.
عندما تبلغ الثورة مرحلة كهذه، يصير انتصارها مستبعداً أو مستحيلاً، فالثورة لا تبلغ غاياتها إلا في إطار الدولة، ولا تحقق أهدافها خارجها، ولا تستحق أن تسمّى ثورة، إلا بقدر ما تنجح في توطيد نفسها بعد انتصارها على أسس تعبّر عن حاجة قوى المجتمع الجديدة إلى دولة.
تعني الثورة الدولة، وتعني الفوضى زوالهما. أليست دولتنا مهدّدة بعقابيل الفوضى المرعبة؟ ألسنا مطالبين، وملزمين، بحمايتها من ضياع يحيق بها وبنا؟
المصدر : العربي الجديد