مقالات

صالح القلاب – اتفاق النووي.. كالسم الذي تجرعه الخميني عام 1988!

لا قيمة إطلاقًا لاعتراض قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري وبعض أعضاء البرلمان على الاتفاق النووي الأخير بين إيران ومجموعة (5+1) ومن بينها الولايات المتحدة، فالقرار الحقيقي الذي لا اعتراض عليه والذي تنحني أمامه حتى الرؤوس المعممة الكبيرة هو قرار مرشد الثورة والولي الفقيه علي خامنئي الذي تجرع هذا «الاتفاق» كما تجرع الخميني في عام 1988 قرار وقف إطلاق النار مع العراق بعد حرب استمرت لثمانية أعوام الذي كان وصفه بأنه كتجرع السم الزعاف.

ربما أن أصحاب الرؤوس الحامية في الحرس الثوري وفي البرلمان وفي بعض المواقع الأخرى ومن بينهم محمد علي جعفري وقاسم سليماني كانوا يراهنون على امتلاك إيران للقنبلة الذرية لتصبح ضمن منظومة الدول العظمى والكبرى، أو على الأقل في مستوى الهند وباكستان وإسرائيل، لكنهم في النهاية وقد تجرع مرشد الثورة السم الزعاف وقبِل بهذا الحل «الأعرج» مرغمًا بعد مماطلات ومناورات وألاعيب سنوات طويلة فإنهم لا يملكون إلا طأطأة رؤوسهم خاصة أنهم يعرفون أن «العين بصيرة لكن اليد قصيرة» وأنه لم يعد أمام طهران إلا التخلي عن حلم جميل تحول مع طول الوقت وبعد اشتداد وطأة العقوبات الدولية إلى كوابيس مرعبة.

إنه لا شك في أن مرشد الثورة علي خامنئي قد قبل بهذا الاتفاق على مضض ومرغمًا وأنه تجرعه كتجرع السم الزعاف لكن ما من المفترض أن يفهمه ويدركه الطرف الآخر، الذي هو مجموعة 5+1 بقيادة الولايات المتحدة، والذي يجب أن نفهمه نحن العرب الذين من المؤكد أننا ندفع الثمن في الحالتين: «إن امتلك الإيرانيون السلاح النووي أو إنْ أُعطوا كبديل جائزة ترضية هي إطلاق يدهم في المنطقة العربية» هو أن إيران لن تتخلى عن هذا المشروع، مشروع امتلاك القنبلة الذرية لا بعد عشرة أعوام ولا عشرين عامًا أو نصف قرن أو مائة عام، فهي سعت وستبقى تسعى لأن تصبح صاحبة القرار الأول والأخير في الشرق الأوسط كله وسواءً أطال الزمان أم قصُر وهذا يتطلب حسب قناعاتها امتلاك القنبلة النووية.

إنها مجرد مكابرة أن يصف علي خامنئي هذا الاتفاق، مثله مثل باراك أوباما بالضبط، بأنه إنجاز تاريخي والدليل هو أنه كان قد اعتبر مشروع إيران النووي ذات يوم غير بعيد بأنه مقدسٌّ وأنه لن يسمح بالمسِّ به أو التراجع عنه لكن ها هو قد تراجع عن هذا المشروع وإنْ مؤقتًا ولعشرة أعوام فقط وهذا لا يمكن فهمه إلا على أن إيران قد أصبحت تعاني من أوضاع اقتصادية لا تطاق وأنها اقتربت فعلاً من لحظة الانهيار خاصة أنها حمَّلت نفسها أعباء تمددها في المنطقة وبالتالي فإنه لم يعد أمام مرشدها إلا أن يتجرع السم الزعاف كما تجرعه الخميني في 8-8-1988.

ثم إنها مجرد مكابرة فارغة أيضًا أن يقول علي خامنئي إن موقف بلاده، إيران، من أميركا لم يتغير رغم توقيعها على هذا الاتفاق (الإنجاز التاريخي)!! فالحقيقة أن موقفه وموقف بلاده من الولايات المتحدة ومن إدارة باراك أوباما قد تغير منذ لحظة صعود الدخان الأبيض من قصر المؤتمرات في فيينا فاصطلاح: «الشيطان الأكبر» قد ولَّى وهو قد لا يعود أبدًا وطهران التي «نشف ريقها» وهي تطارد سراب الحصول على القنبلة النووية بادرت إلى إعادة ترميم فنادقها لاستقبال المستثمرين الغربيين الذين سارعوا ومنذ الآن إلى رفع شعار: «وداعًا للفلافل نعم للهامبورغر» حسب إحدى الصحف البريطانية.

إنه ليس من حق علي خامنئي أن يصف اتفاق النووي الأخير بأنه: «إنجاز تاريخي» فهو في الحقيقة قد تجرعه كتجرع السم الزعاف أما بالنسبة للرئيس الأميركي المغادر بعد 18 شهرًا فإنه لا يملك إلا أن يصف هذا الاتفاق بهذا الوصف لأنه أولاً لم يحقق خلال ولايته، الأولى والثانية، أي إنجاز خارجي على الصعيد الدولي غيره ثم لأنه ثانيًا أراد جذب الصوت اليهودي بل والتأثير اليهودي في اتجاه حزبه، الحزب الديمقراطي، في الانتخابات التي باتت واقعيًا على الأبواب.
وهنا فإنه لا بد من الإشارة إلى أنها كذبة بحجم الكرة الأرضية أن يقول باراك أوباما إن الولايات المتحدة حتى بعد توقيع هذا الاتفاق لم تتخل عن «خيار» استخدام القوة العسكرية ضد إيران، فالحقيقة التي يعرفها هذا الرئيس المغادر، كما يعرف اسمه وأسماء ابنتيه وزوجته، هي أن الولايات المتحدة قد تخلت عن خيار استخدام القوة العسكرية منذ أن لحقت بها هزيمة صحراء لوط المخزية عندما حاول الرئيس الديمقراطي الأسبق جيمي كارتر عرض عضلاته، وهو ذاهب إلى الانتخابات الرئاسية في عام 1980، وتحرير رهائن السفارة الأميركية في طهران الذين كان قد قاد عملية احتجازهم ولفترة طويلة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد عندما كان في ذروة تشدده ومراهقته السياسية.

إنه لا يوجد أسوأ من هذه الظروف التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الأميركية ثم إن المعروف أن الولايات المتحدة قد واجهت الكثير من التحديات التي لا تزال تواجهها إنْ في هذه المنطقة وإنْ على مدى العالم كله وإنها قد أهينت في عهد هذه الإدارة الديمقراطية مرات عدة ولا تزال تهان لكنها ورغم هذا كله قد بقيت تلوذ بصبر كصبر أيوب عليه السلام وإنها بقيت تعض على الجرح وتتمتع بصبر بلا حدود ولذلك فإنه لا يستطيع حتى الإنسان البريء إلا أن يقهقه بصوت صاخب مرتفع عندما يسمع باراك يقول إن أميركا لم تتخل عن خيار استخدام القوة العسكرية ضد إيران حتى بعد توقيع الاتفاق النووي الآنف الذكر.

ثم وبالعودة إلى مرشد الثورة علي خامنئي ووصفه للاتفاق النووي، الذي تجرعه كتجرع السم الزعاف وتحت ضغط «هاجس» انهيار نظام كان أقحم إيران في حرب مدمرة استمرت لعشرة أعوام وفي تدخلات سافرة في الكثير من الدول العربية المجاورة والمتاخمة، بأنه: «إنجاز تاريخي»، فقد كان عليه أن يتمسك بضرورة إخلاء الشرق الأوسط كله من الأسلحة النووية حتى بما في ذلك السلاح النووي الإسرائيلي، وحقيقة إن هذا مطلب حق لو أنه تمكن من إلزام الأوروبيين والأميركيين به لكان حقق إنجازًا تاريخيًا فعليًا ولكان كرس جمهورية إيران الإسلامية كرقم صعب في معادلة هذه المنطقة وفي المعادلة الكونية بأسرها.

إنَّ هذه المسألة لا شك في أنها أحاطت إيران، النظام بالطبع، بالكثير من دوائر الشبهات والتساؤلات أما المسألة الأخرى التي هي أن مرشد الثورة، الذي تجرع الاتفاقية الأخيرة كتجرع الخميني للسم الزعاف في عام 1988، بدل أن «يهرب» من هذه الاتفاقية، التي لم تكن بالنسبة للإيرانيين «إنجازًا تاريخيًا» على الإطلاق، بالانفتاح على أشقائه العرب ووضع حدٍّ للتدخل في شؤونهم الداخلية بادر إلى التأكيد على استمرار تمدد بلده في العراق وسوريا واليمن وتدخلها السافر في مملكة البحرين وهذا يدل على الضعف وليس على القوة ولا يمكن تشبيهه إلا بذلك الرجل الذي لا يجد ما يعوض به خوفه من الرجال إلا الانتقام من أهل بيته وزوجته وأطفاله.

إنه كان على مرشد الثورة بعد توقيع هذه الاتفاقية المذلة التي ستبقى تحد من طموحات إيران، حتى الطموحات المشروعة، لعشرات الأعوام أن ينفتح على أشقائه العرب وأن يكف نهائيًا عن كل هذه المشاريع الخيالية، التي أفقرت دولة من المفترض أنها أقوى دول هذه المنطقة وأغناها اقتصاديًا، وأن يوجه الجهود كلها إلى الداخل لتخليص الشعب الإيراني من التخلف والأوضاع المعيشية المتردية ومن التخلف واللهاث وراء المسيرة الحضارية المندفعة بقوة نحو مستقبل لا تزال بين الإيرانيين وبينه فراسخ فعلية كثيرة.

المصدر : الشرق الأوسط

زر الذهاب إلى الأعلى