مقالات

غازي دحمان – أهداف تكتيكية للمبادرة الإيرانية

بتذاكٍ وكيدية، ملحوظين، يسارع عقل جمهورية إيران الإسلامية إلى إجراء مناورة دبلوماسية، تبدو وكأنها محاولة لبناء حيثيات وهمية، أشبه بمجسمات كرتونية، وفرضها أمراً واقعاً على خريطة الصراع في المنطقة، فيما بدا أنه مسعى للهروب إلى الأمام، وعدم رغبة في رؤية الوقائع كما هي، وخصوصاً بعد تحطم النماذج التي صنعتها على المساحة اليمنية. 

 
حسناً، ما لم نستطع فعله في الميدان، سنحاول صناعته بالدبلوماسية، هذا لسان حال الإيرانيين، أو ليست الدبلوماسية استكمالاً للحرب؟ خصوصاً أن العقل السياسي الإيراني الحديث على عالم العلاقات الدولية ما زال عند الدروس الأولى في السياسة، بعد أن ظل عقوداً يصنع سياساته، تأسيساً على نظرية عودة الغائب في الاستراتيجيا، والنهل من كتاب الملل والنحل تكتيكياً. 
 
أظهر ذلك كله طرح إيران الجديد ساذجاً في الشكل، وخبيثاً في المضمون، وكأنه لا يطرح حلا لأزمة معقدة، ومتشابكة إقليمياً ودولياً، تحتاج مقاربتها إلى رؤية معاصرة للمشهد الدولي والتغيرات الاجتماعية وتأثيرات العولمة، بل مجرد محاولة للانتقام من تاريخ سحيق، وإعادة تصويب مستحيلة لوقائع دفنها الزمن.
 
لا تحمل الخطة الإيرانية جديداً، لا من حيث تقنياتها، ولا من حيث الطرح، ولا تنطوي على عناصر مؤثرة، من شأنها تحفيز الأطراف المتصارعة على قبولها. لذا، تعرف إيران أن حظوظ نجاح مبادرتها معدومة، لكن ذلك لا يمنع من قذف ألغامٍ كثيرة في فضاء الأزمة السورية:
– تظهير الإشكالية في سورية على أنها بين أقليات وأكثرية، والإيحاء بأن الأقليات هي من قامت بالثورة، نتيجة اضطهاد الأكثرية لها، ولأن الدستور القديم لا يتضمن حقوقاً واضحة لها، وفي ذلك محاولة خبيثة لاستغلال القلق الدولي على الأقليات في المنطقة! غير أن ثمة هدفا عملانيا يتجاوز المضمون العاطفي الظاهري، ذلك أن إيران، بعد أن أنجزت عملية التطهير الديمغرافي لمنطقة واسعة، تمتد من اللاذقية حتى دمشق، وتشكل جسور تواصل بين لبنان والعراق، وصار العنصر الغالب فيها يتشكل من الأقليات، فهي تريد ضمانة دستورية على شكل لامركزية، تؤهلها للسيطرة على القرار السوري، وطلب الانفصال لاحقا عن الجسم السوري، في حال لم تلبِّ مصالح إيران وشروطها.
 
– اختزال القضية في إجراءات شكلية، مثل الانتخابات على مستويات دنيا، ترسيخاً لقناعة أن بشار الأسد رئيس شرعي، وبالتالي خارج كل المعادلات، مثل الأبنية الأمنية والعسكرية التي تشكل الجزئية الأهم في مؤسسة الدولة السورية التي يطالب الغرب بالحفاظ عليها.
– مجرد دخول عتبة العملية السلمية يُصار إلى تبرئة النظام من كل الجرائم السابقة، وعلى السوريين دفن قتلاهم، والعودة لحالة الخضوع السابقة للنظام.
– التركيز على صورة سورية الحالية، ومعالجة الأوضاع ضمن إطار هذه الصورة، بما فيها من توطين وإحلال ديمغرافي وإهمال كل ما هو خارجها، بما فيه ملايين المهجرين والنازحين، وحل هذه المسألة عبر تسويات مناطقية، كأن يتم تهجير سكان الزبداني في مقابل نقل سكان كفريا والفوعة إلى ريف اللاذقية، حيث سيحلون مكان المهجرين من بانياس وجبلة وجبل التركمان.
– حرف التغيرات الدولية، ومنع أي تطورات قد تحصل، خصوصاً بعد ظهور تغيرات في الموقف الروسي، ومنع تطوير تفاهم أميركي – تركي، بخصوص المناطق العازلة. وبالتالي، تستهدف المبادرة حماية نظام الأسد فترة، حتى تكون المعطيات تغيّرت بعض الشيء.
 
تعرف إيران أن مبادرتها ميتة، ولا يمكن أن تشكل قاعدة للتفاوض، فلا هي طرف موثوق به بالنسبة للغرب، ولا هي تملك جسور تواصل مع الطرف السوري الآخر الذي يفترض به قبول المبادرة. لكن، لا بأس من إشغال العالم في الفترة المقبلة، وضمان عدم تشكّل سياقات بديلة تقلب المعادلة في الشرق الأوسط لغير صالحها، ولا شك أن إيران حاولت الاستفادة من نقلات سياسية حاصلة في المشهد الدولي، بعد قراءتها من زوايا نظر محددة، وتأويلها بما يناسب العقل الإيراني، خصوصاً لجهة الموقف الروسي المتأرجح، والموقف الخليجي المرن الذي تبين أنه يهدف إلى تفكيك مواقف الأطراف، وليس تغير الموقف تجاه الحدث السوري.
 
بالنسبة لروسيا، الواضح أنها تمر بمرحلة بناء تقديرات جديدة للأزمة، وإعادة تقييم وضعها، فهي تقف حائرة أمام احتمالية تطور علاقات الغرب مع إيران وانفتاحها الاقتصادي عليها، وتأثير ذلك على أسعار النفط. وفي الوقت نفسه، تريد موازنة أوضاعها أمام هذه التغييرات المحتملة، وتقديراتها الخسارة المتوقعة، والربح المقدر يجعلها، في هذه المرحلة، تذهب إلى إمساك العصا من المنتصف. ربما من هنا جاء تصريح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وقبله الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن حصول تغيير في الموقف الروسي، ما يطرح التساؤل عما إذا كانت روسيا بصدد إحداث تحول جذري في موقفها، أم هي خطوة تكتيكية لفتح باب المساومة معها؟
 
بالنسبة للخليج، وبعد محاولة إيران الاستفادة من زيارات بعض مسؤولي النظام السعودية وعُمان، وتظهيرها على أنها تشكل تحولات في الموقف من الأزمة، فلم يكن ممكنا لدول، مثل السعودية وقطر، أن تعدّل مواقفها تجاه الحدث السوري صوب تلك الاتجاهات. بالأصل، قامت هذه البلدان بهيكلة أنظمتها السياسية والأمنية، ومنظوماتها العسكرية، نتيجة التداعيات الخطيرة للحدث السوري، وتأثيرات إيران فيه، بما يثبت أن الأزمة السورية جرى دمجها في قلب استراتيجيات هذه الأنظمة البعيدة المدى، والتي تتضمن رؤاها للأمن والاستقرار في هذه المنطقة، والقضية ليست شخصية، ولا عاطفية، بقدر ما هي تقديرات مبنية على وقائع محايثة، فضلاً عن أن هذه السياسات تجسيد للبدائل الأكثر تلاؤماً مع مصالح دول الخليج الأمنية والسياسية.

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى