أعلن المبعوث الأممي لسوريا ستيفان دي مستورا عن مبادرته الأخيرة القاضية بتشكيل أربع لجان، تضم ممثلين عن المعارضة السورية والنظام، تتحاور لتفكك الأزمة السورية وتجد حلاً لها، ورغم أنه حصل على تأييد خجول ببيان رئاسي من مجلس الأمن ولم يحصل على قرار، سرعان ما بدأ بالتحضير لهذه اللجان وتفصيلها، ولأنه لا يستطيع التدخل بتفصيل وفد النظام، استقوى على الأضعف، وبدأ بتفصيل وفد المعارضة، واتّجه ليختار من المعارضة السورية، الداخلية والخارجية، ما لا يتجاوز نصف ممثلي المعارضة، وليختار من مؤسسات المجتمع المدني والشخصيات القائمة عليها النصف الآخر.
ضرب دي مستورا بعرض الحائط أهم أسس المفاوضات، وتدخّل بتحديد المشاركين من المعارضة، واستبعد المعارضة الحقيقية، السياسية منها والثورية، وكثيراً من شخصيات المعارضة ذات الخبرات السياسية والفكرية والنضالية، وغالبيتهم ليسوا ضمن مؤسسات المعارضة البارزة، واتّجه ليختار قسماً كبيرا من ممثلي الثورة من مؤسسات وهيئات المجتمع المدني التي لم يكن لها وجود في سوريا قبل الثورة، ويشك السوريون أيضاً بوجودها الآن.
المشكلة أن مفهوم المجتمع المدني هو مفهوم حمّال أوجه وإشكالي، وقابل للخلاف والاختلاف ومن الصعب وضع تعريفات وتحديدات وأطر ثابتة لها، وهي بالأساس يجب أن تكون نتاج فكر سياسي مرتبط بتطور المجتمعات، وافتقدت سوريا المؤسسات التي يمكن أن تُجسّد هذا الفكر بسبب النظام الأمني والقمعي الذي كان في سوريا منذ استلام الأسد الأب السلطة قبل نحو خمسة عقود.
قبيل الثورة، كانت في سوريا نحو 600 جمعية غير حكومية، نصفها تقريباً جمعيات خيرية بطابع ديني غير مسموح لها أن تنشط خارج هذا الإطار، ونصفها الآخر جمعيات اسمية وواجهات (بريستيجية) لأزلام النظام ونسائهم وأولادهم وأصدقائهم، وتشرف عليها الأجهزة الأمنية وتشاركها مداخيل التمويل، وحين تأسست لجان إحياء المجتمع المدني بجهود نخبة من المثقفين السوريين من اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة، وبدأت تعمل بشكل علني، سرعان ما قمعها النظام ومنع نشاطاتها، وأنهى ربيعاً كان ينتظره السوريون منذ عقود، وهذا تقريباً كل ما عرفه السوريون عن مؤسسات المجتمع المدني خلال حكم الأسد الأب والابن.
الحراك المتقدّم للمجتمع المدني ومؤسساته، والمفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تطرحها تلك الفئة، يمكن أن تؤدي إلى ثورة ويمكن أن تقودها وتُنجحها، كذلك يمكن أن تُفرز الثورة تحولات كبيرة من ضمنها تبنّي مفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية وتكافؤ الفرص والمساواة، ما يعني، تلقائياً، تأسيس مجتمع مدني ببنية جديدة ووظائف وعلاقات جديدة بين أفراد المجتمع، وهي نتيجة من نتائج الثورة، لكن ما يُطلق عليه في سوريا الآن تسمية “مجتمع مدني” هو شيء آخر.
بعيداً عن فلسفة الفكرة والمفاهيم الأكاديمية للمسألة، يمكن الجزم بأن كل المؤسسات المدنية والأهلية التي تأسست خلال الثورة انقسمت إلى ثلاثة أقسام، أو تبنّت ثلاثة وسائل ومناهج، هي التي سينتقي منها دي مستورا ممثلي الثورة وراسمي مستقبل السوريين.
القسم الأول عبّر عن نفسه في شكل جمعيات وهيئات ومؤسسات إغاثية، وظيفتها تأمين ما يمكن تأمينه من مساعدات إنسانية وغذائية وطبية ونفسية، لكن قسماً بسيطاً منها نجح في مهمته وعمل من أجلها حقيقة وبإخلاص، بينما القسم الأكبر تحوّل بسرعة أو بالتدريج إلى بقرة حلوب لمؤسسيها والعاملين فيها ومدبّري أموالها.
القسم الثاني كان مؤسسات دراسية بحثية توثيقية تخصصت في البحث عن اليوم التالي ما بعد تغيير النظام، أو في بحث الواقع القانوني والدستوري والحقوقي لسوريا ما بعد انتهاء الأزمة، وقسم قليل منها عمل كمراكز توثيق الانتهاكات والمجازر والقتلى، والبقية العظمى قامت بدراسات لم يستفد منها أي سوري ولن يستفيد، وأقامت ندوات ومؤتمرات تحت شعار المجتمع المدني، كان نتيجتها تضخّم جيوب مؤسسيها وشُطّارها ومدّعي المعارضة فيها.
أما القسم الثالث فكانت مجموعات من المؤسسات والهيئات المدنية التي حملت أسماء جميلة ورنانة، ونشطت وملأت وسائل الإعلام بتصريحات وتحركات وصور القائمين عليها وأتباعهم، ولم يعرف السوريون ما هي وظيفتها ودورها وهدفها، بعضها وضع أهداف تربوية وتعليمية وداعمة نفسية، وهي لم تقدّم شيئاً يوازي ما دفعه ممولوها.
المشكلة أن الحرب المدمرة في سوريا دمّرت وشوّهت مفاهيم المجتمع المدني، لأن أي عقد اجتماعي يمكن أن يكون عماد مؤسسات المجتمع المدني بحاجة لمن يضمن تنفيذه، ويكون، في الوقت نفسه، منسقاً بين هذه المؤسسات، وحارساً على مصالحها ومصالح أفرادها، وهذا الضامن عادة هو الدولة التي يُكلّفها المجتمع بهذه المهمة دون أن يكون لها حق التدخل، وهو ما لا يتوافر في سوريا بعد.
أصل الصراع في سوريا يكمن أساساً في طبيعة النظام الدكتاتوري القمعي الطائفي الذي حوّل سوريا إلى بيئة اجتماعية خطرة وانفجارية، وشوّه، عن عمد، التكوين المعرفي للسوريين، وقضى على أي دور للمجتمع المدني.
تسبب النظام السوري عبر خمسة عقود من الحكم بشروخ في النسيج الاجتماعي السوري، وأعاد المفاهيم السياسية والاجتماعية والأخلاقية إلى مفاهيم ما قبل الدولة، وجذّر النزوع الطائفي والإقليمي والإثني في أذهان السوريين ووعيهم، ولم يعد المجتمع يملك شيئاً من الانسجام الاجتماعي والوطني والقومي أو التسامح والفهم المشترك والتعاون، ولم تكن اللغة والمصالح والأهداف والبنية الأخلاقية هي التي تحكم حياة السوريين وعقدهم الاجتماعي، بل تشكيلة من الموبقات والفساد والمحسوبيات والطائفية التي عممها النظام بعناية ومهارة.
سعى النظام السوري للقضاء على النشاط السلمي، وقتل وأعدم رموزه، ثم انتقل للصف الأول والثاني، وحارب المعارضة المسلحة المعتدلة وغض الطرف عن المتطرفة والمتشددة، وحارب السياسيين أكثر من محاربته للمتطرفين، قتل المدنيين أكثر من قتله للعسكريين، أراد القضاء على الحراك المدني السلم لأنهم يشكّلون الخطر الأكبر عليه.
ما قام به النظام خلال سنوات أربع فتح الباب أمام كل من أراد أن يُجرب حظه في (بيزنس) مؤسسات المجتمع المدني، الإغاثية والإنسانية والبحثية والفكرية والتربوية وغيرها، وافتُتحت (دكاكين) كثيرة، أصحابها لا خبرات لهم ولا تراكم معارف، لا تعرف أن صلب دورها يجب أن يتجاوز التخريب السياسي والاجتماعي الذي راكمه النظام، فضلاً عن افتقاد أصحابها للحرفية والمهارات الإدارية، فحوّلوا بجهلهم السياسة لسوق سوداء لا تحكمها ضوابط ومعايير، وانتشر الفساد والمحسوبيات والشللية فيها، وأصبحت جمعيات الإغاثة ومنظمات المجتمع المدني غاية بحد ذاتها للحصول على المنافع، وليست وسيلة لتحقيق مطالب الشعب.
يقول دي مستورا إنه سيعتمد على قسم كبير من هؤلاء لتشكيل ممثلي المعارضة في لجانه الأربع، وباعتقاده أنهم سينجحون في أن يكونوا (بيضة القبان) في هذه اللجان، وهم في الحقيقة خليط غير مؤهل، لا يعرف الفرق بين السلطة والنظام والدولة والحكومة، وبعضهم تميل أهواؤه للنظام أو باتجاه ريح مصالحه، وأمثال هؤلاء بالتأكيد غير قادرين على حمل هموم الشعب ومآسيه معهم للمفاوضات، ولن يُقاتلوا للحصول على حق ملايين المظلومين ومئات آلاف الأمهات المكلومات، وسرعان ما سينسون أن مهمتهم التفاوض لتحقيق أهداف الثورة، هذا إذا كانوا يعرفون هذه الأهداف أصلاً.
المصدر : العرب